حوارات، مجتمع

الأنثربولوجي أبلال: “بوجلود” يعكس استيلابا ثقافيا واغترابا في الرموز المؤسسة للثقافة الأصلية

قال الباحث الأنثروبولوجي عياد أبلال إن مهرجان بوجلود في أصله يمثل احتفالا عبوريا يعكس الأدوار والتراتبيات الاجتماعية، مُعبِّرًا عن أشكال من الثورة على السلطوية والتقسيم الجنسي للعمل، مضيفا أن البعد الجنسي الفاحش في الاحتفال يعتبر قلبا دلاليا للطهارة والقدسية المجتمعية، وإعلانًا بضرورة تمرير السلطة للشباب وإشراكهم في القرار.

ويشير أبلال إلى تحول مهرجان بوجلود في جوهره الثقافي، حيث استدماج أقنعة تنكرية ورموز دلالية لاحتفال الهالوين الأمريكي يعكس التغيرات في الطقس الاحتفالي. ويشير إلى أن الاحتفال لم يعد يعتمد على تقسيم الأدوار التقليدي، بل أصبح كرنفالًا احتفاليًا جماهيريًا يتضمن موسيقى كرنفالية دخيلة وملابس تنكرية مستوردة.

ولفت المتحدث في حوار مع جريدة “العمق” إلى أن تغيير الرموز والعلامات في مهرجان بوجلود قد يؤدي إلى تغيير في المرجع والواقع الاجتماعي، مما يسهل مع الوقت الانسلاخ من الهوية الثقافية الأصلية. ودعا إلى الاحتفاء بالخصوصية الثقافية المحلية وتحويلها إلى كونية وعالمية باسم التعارف والتكامل والانفتاح، محذرًا من خطر الاستلاب الثقافي والانفصال عن الهوية الأصلية.

ويلاحظ أبلال دخول علامات ورموز للثقافة الغربية في النسق التصوري للثقافة الجمعية في المغرب، مشيرا إلى أن اختيارات وأذواق الشباب منذ بداية الألفية الثالثة في اللباس والمطبخ والموسيقى تكاد تكون غربية بشكل كبير. ويعتبر أن النيل من الثقافة المحلية لصالح النموذج الثقافي الغربي يفضي إلى فقدان الهوية واستدماج هوية جديدة دخيلة، مما يؤدي إلى استلاب ثقافي.

وطرح  أبلال سؤالًا حول ما إذا كانت هذه المهرجانات تعكس القيم والخصوصية المغربية أم لا، مشيرًا إلى أن البعد الديني حاضر في النسق التصوري للمغاربة. مؤكدا أن مسألة تأثير القيم الدينية على الاحتفالات التراثية تتحول إلى مسألة ما إذا كانت هذه المهرجانات لا تزال تحتفظ بروحها الأصيلة أم أنها أصبحت تعكس ثقافات مستوردة.

وفيما يلي نص الحوار:

كيف تصف مهرجان بوجلود والتغييرات التي طرأت عليه في السنوات الأخيرة من حيث الطقوس والممارسات؟

للحديث عن مهرجان “بوجلود” أو “بلماون”، الذي بات ينظم في السنوات الأخيرة في مدينة أكادير، وقبل ذلك في مدينة الدشيرة يجب أن نستحضر ثلاث مستويات: التاريخي، والثقافي، والاجتماعي، فعلى المستوى التاريخي، يستلهم هذا المهرجان ظاهرة “بوجلود” أو “بلماون” أو “هرما”، حسب تعدد الأسامي بالمنطقة، ومناطق أخرى من المغرب، حيث كانت العديد من المدن والقرى في شمال المغرب وشرقه وغربه تحتفل به، وهي ظاهرة ثقافية واجتماعية رصدتها الدراسات الأنثربولوجية منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وخاصة خلال الفترة الاستعمارية، حيث تناولها “إدموند دوتي”، معتبرا إياها ظاهرة طقوسية تنهل من أسطورة مغرقة في القدم، حيث تحكي الأسطورة قيام رجلين بالاعتداء الجنسي على نساء في ضريح، فمسخ الرجلان إلى هيئة بوجلود، وتم طردهما من القبيلة، وكلما اشتد الجوع بهما نزلا أرض القبيلة طلبا للشفاعة للحصول على الغذاء، بيد أن دوتي يحقب للأسطورة ويعتبرها انعكاسا للدورة الفلاحية، وهو ما يذهب إليه هنري لاوست، مثلما فعل ذلك الأنثربولوجي عبد الله حمودي، (مثلما تناوله عدد كبير من المؤلفين المسرحيين).

إلا أن هذا الطقس الأسطوري في أبعاده الثقافية والاجتماعية، يعكس مستويات من الدلالة مرتبطة بأبعاد تاريخية فقط، حيث تذهب الرؤية الاستعمارية إلى أن هذا الطقس امتداد تاريخي لطقوس رومانية كرنفالية منتشرة في المنطقة المتوسطية ولا علاقة لها بعيد الأضحى، وهي ترتبط بالبقايا الوثنية للأمازيغ، خاصة وأن الاستعمار كان يرغب في فصل الثقافة الأمازيغية بشكل نهائي عن الثقافة العربية الإسلامية، وهو الرأي الذي ينفيه عبد الله حمودي قائلا بارتباط الظاهرة بعيد الأضحى، وإن كان لا ينفي البعد الكرنفالي الذي يميز بعض الظواهر الكرنفالية في المتوسط المرتبطة بأسطورة إله النبات، منتصرا في كتابه “الأضحية وأقنعتها” الصادر سنة 1988، إلى خصوصية الظاهرة الاحتفالية بلماون أو بوجلود بالمغرب، فالدورة الطقوسية هذه تبدأ بنحر الذبيحة، وتنتهي بألعاب المسخرة والكرنفال، حيث تلعب الأقنعة والملابس دورا مسرحيا لقلب الأدوار والتراتبيات الاجتماعية، خاصة وأنها تعكس مستويات دلالية ثقافية واجتماعية مغربية من قبيل التقسيم الجنسي للعمل بين الرجال والنساء، والتراتبية السلطوية الذكورية بين الأبناء والآباء والشيوخ، وهو ما يمكن رصده خلال طقس الذبيحة، فالنساء يشاركن في الإعداد ويختفين في الفعل النحروي، والشيوخ يمتلكن سلطة القرار والحكم الجماعي، مقابل تواري الشباب.

وبما أن مصير الشباب في هذا التقسيم هو المرور إلى السلطة والحكم والقرار بعد المرور من طقوس اجتماعية نسميها بطقوس العبور، فإن هذه الطقوس الاحتفالية تعد بمثابة التهيؤ لهذه الطقوس العبورية عبر فعل المحاكاة والمسخرة، إذ يعمد هذا الطقس إلى عكس الأدوار والتراتبيات، فيحتل الشباب الفضاء الاجتماعي مقابل تواري النساء والشيوخ والآباء، والمستوى الثاني للدلالة الاجتماعية لبوجلود، هو أنه ليس طقسا احتفاليا وكرنفاليا محايدا، بل يعكس مستويات ثقافية متعددة، تتجلى في تقسيم الأدوار ومسرحتها، وهنا تأتي أدوار القائد الذي يرتدي رأس خروف، بلماون وقوائم بهيمة، وحرسه، وثلاث يهود وحبر، والقاضي الذي عادة يحكم في فض النزاعات باسم العرف، وإذا كانت أدوار القائد والقاضي تعكس مستويات أبوية السلطة والحكم، فإن أدوار اليهودي تحيل على دونية في التراتبية الاجتماعية والثقافية، ولهذا، فظاهرة بوجلود، أو بلماون، أو هرما حسب تعدد الأسامي والتوصيفات، هو احتفال عبوري طقوسي يعكس الأدوار والتراتبيات الاجتماعية كشكل من أشكال الثورة على السلطوية، وعلى التقسيم الجنسي للعمل وفق مقاربة ذكورية. ولهذا فالبعد الجنسي الفاحش في الاحتفال هو قلب دلالي للطهارة والقدسية والاعتبار المجتمعي للسلطة البتريريكية، وإعلان بضرورة تمرير السلطة للشباب وإشراكهم في القرار. وهذا هو طقس بوجلود الاحتفالي.

ما هي الأسباب الرئيسية وراء ظاهرة الاستلاب الثقافي التي تعاني منها بعض المهرجانات التقليدية مثل بوجلود؟

إذا كنا قد قمنا بمحاولة توصيف دلالي لظاهرة بوجلود، مستحضرين الأبعاد التاريخية والثقافية والاجتماعية، فللدلالة على أن الظاهرة تعكس في تجلياتها الطقوسية ما يمكن أن نسميه أنثربولوجياً بالثقافة الأصلية، وهو ما يميز الاحتفالات الطقوسية في العالم، كما يميز الخصوصيات الثقافية لكل شعب من الشعوب، وهنا أستحضر مفهوم الأصالة للدلالة على التميز والانتماء، فاحتفال بوجلود الطقوسي بالطريقة التي كان يجري بها في المغرب منذ ما قبل القرن العشرين، هو خصوصية مغربية، وهذه الخصوصيات هي التي سمحت بإعادة إحياء هذه الطقوس بالعودة إلى الأصول، خاصة مع انبعاث مفاهيم الخصوصية والاختلاف والهوية والتعدد مقابل مفاهيم الوحدة والمطابقة والعولمة التي انتصرت منذ تسعينيات القرن الماضي، وازدادت حدة مع الألفية الثالثة.

والمغرب راهن منذ بداية هذا الحين إلى إحياء وانبعاث تراثه المادي وغير المادي خاصة منذ سنة 2000، حيث قامت وزارة الثقافة وجمعيات المجتمع المدني بتنظيم أزيد من 14 مهرجانا تراثيا، من قبيل: الطقطوقة الجبلية، عبيدات الرماـ العيطة، التبوريدة، الفروسية، أحواش، مهرجان الجمل بطانطان … وطبعا هذه المهرجانات التراثية التقليدية تعكس خصوصية مغربية، وقد كانت هذه العودة لهذا التراث غير المادي نتيجة حتمية لخطاب الهوية الذي انبعث بقوة بسبب العولمة والرغبة الغربية في تنميط الأذواق والاختيارات والعقول بفضل هيمنة النموذج الثقافي الغربي. وقد كُتبت وألفت الكثير من الكتب والدراسات حول الاستلاب الثقافي الذي بات يهدد الخصوصيات الثقافية لبلدان الجنوب مقابل هيمنة النموذج الثقافي لبلدان الشمال، أو لنقل الغرب مقابل البلدان المتخلفة، ومن بينها بلدان العالم العربي والإسلامي. وعليه، بتنا نعاين دخول علامات ورموز للثقافة الغربية في النسق التصوري للثقافة الجمعية في بلدنا، مثلما هو حال باقي بلدان الجنوب. فاختيارات وأذواق الشباب منذ بداية الألفية الثالثة في اللباس والمطبخ والموسيقى تكاد تكون غربية بشكل كبير. ومقابل الاعلاء من النموذج الثقافي الغربي والنيل والاستهزاء بالمحلي والأهلي، صار الاستلاب الثقافي عنوان الوضعية الثقافية اليوم. ولذلك فالنيل من ثقافة الانتماء والأصل يعني فقدان الهوية واستدماج هوية جديدة دخيلة. من هنا ينشأ الاستلاب الثقافي.

في رأيك، كيف يمكن تحقيق التوازن بين الحفاظ على التراث الثقافي والتحديث الذي يطرأ على مثل هذه المهرجانات؟

جوابا على هذا السؤال، أستحضر من جديد مفهوم الهوية، باعتباره مفهوما مرنا، وباعتبار الهوية نسقا ثقافيا واجتماعيا متحولا باستمرار، لكنه تحول من داخل مفهوم الثبات والأصل، بمعنى أن التعامل مع الثقافة لا يقتضي الركون للشوفينية والعنصرية والعرقية، بمعنى الانغلاق داخل نزعة الخصوصية المفرطة والتمركز حول الذات، بل هنا الهوية في مرونتها تعني الانفتاح، لكن الانفتاح لا يعني هدم الثقافة الأصلية لصالح ثقافة مستوردة، بل الاحتفاء بالخصوصية والمحلية، وتحويلهما إلى كونية وعالمية باسم التعارف والتكامل والانفتاح. ذلك أن المحلية والخصوصية والتميز هي المداخل الأساس للتفرد والاختلاف، دون ذلك فهو استلاب ثقافي. من هنا يمكن أن نجعل مهرجاناتنا التراثية تعكس خصوصياتنا الثقافية والاجتماعية وقيمنا، وتحديثها من خلال إعادة الاشتغال على التراث نفسه، وليس باستيراد نماذج ثقافية جاهزة.

ما هو تأثير القيم الدينية على الاحتفالات الشعبية التقليدية في المغرب، وكيف يُمكن لمهرجان بوجلود التوافق مع التعاليم الدينية دون فقدان هويته التراثية؟

ضمن هذا السياق وجب التنبيه إلى أن النقاش الديني بخصوص الظواهر الفنية مغلوط، وهو حق أريد به باطل، فالنقاش هنا يجب أن ينصب على القيم والأخلاق، وهذا النقاش تم تغييه ليس فقط في المغرب، بل في الغرب نفسه انتصارا لحداثة سائلة دون أخلاق وقيم ، اللهم قيم الاستهلاك، فالاحتفالات الشعبية التقليدية أو بتعبير أنثربولوجي التراثية، يجب أن تعكس قيم هذا الشعب، وهي قيم أصيلة سواء كانت أمازيغية أو عربية إسلامية، ولم يشهد التاريخ على تضارب وصراع هذه القيم بين المكونين العربي الإسلامي والأمازيغي، أو الحساني أو الموريسكي…إلخ، لأن المغاربة استطاعوا أن يصهروا التعدد والاختلاف والتنوع في وحدة حضارية أساسها القيم الإنسانية الأصيلة التي لا تتعارض مع الإسلام. ولهذا فقيم الحق والعدل والحشمة والوقار والإيثار والاحترام والبر هي قيم دينية واجتماعية وثقافية وإنسانية، انصهرت كلها في مفهوم العار والشرف في المتخيل المغربي. ولذلك، فالشعب المغربي ظل شعبا محبا للحياة والفرح من داخل الإسلام نفسه، ولم نشهد أي تعارض مزعوم بين الإسلام والثقافة المغربية سواء الأمازيغية أو الحسانية أو الموريسكية… إلخ، إلا بعد أن اشتدت نزعة المركزية الغربية وقيم الاستهلاك الغربي فتكا بالخصوصيات الثقافية. إن المسألة لا تتعلق بتأثير القيم الدينية على الاحتفالات التراثية التي تحولت إلى مهرجانات سائلة، بل بسؤال هل باتت هذه المهرجانات تعكس القيم والخصوصية المغربية أم العكس؟، أما البعد الديني فهو حاضر في النسق التصوري للمغاربة، مثلما هو حاضر في ثقافتهم الأصلية. وهو ما لا يرغب الغرب في المحافظة عليه.

هناك من يقول بأن مهرجان بوجلود فقد هويته، فكيف ترى الأمر كباحث أنثربولوجي؟ وكيف ترى تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على نقل صورة مهرجان بوجلود إلى الجمهور؟ وما هي الإجراءات الممكنة للحد من الظواهر السلبية التي ترافق الاحتفال؟

مهرجان بوجلود، بغض النظر عن تأثير وسائل التواصل الاجتماعي، تحول في جوهره الثقافي، وبات يتخذ مسلكا احتفاليا انزياحيا عن الثقافة الأصلية، وللدلالة على ذلك أسوق مستويين للتحليل، المستوى الأول يتمثل في العلامات والرموز، المستوى الثاني يتمثل في المرجع والدلالة.

المستوى الأول وهو مستوى خطير في كُمونيته وخفائه الدلالي، ويتمثل في استدماج أقنعة تنكرية عبارة عن رموز دلالية لاحتفال الهالوين الأمريكي، وهو احتفال يعود في أصوله الأنثربولوجية إلى شعوب هندو أوربية مرتبطة بالدورة الفلاحية، وخاصة انبعاث إله الشمس الذي يقع في أسر الليل والظلام والموت ويحاول الانبعاث والعودة للحياة، وهي أسطورة “كلتية”، تفيد بأن العودة للحياة تتم عبر أجساد الحيوانات، ولهذا فالاحتفال في حد ذاته هو دعوة للتنبؤ بالمستقبل والغيب.

كما تعتقد الأساطير الإيرلندية التي تشكل الأساس المرجعي للاحتفال الأمريكي بالهالوين. ولهذا، فمستوى العلامات والرمز في خطورته يضمر المعنى والدلالة الكامنة، وخطورة هذا الاخفاء والتورية تكمن في أن التطبيع الثقافي والتكرار، يجعل المعنى ينسحب تدريجيا من الرموز والعلامات ليستوطن العقل عبر مفهوم الغرس الذهني، الذي يجد تجلياته في نظرية الغرس الثقافي، وأفضل وسيلة لذلك، هو الاتصال الجماهيري، وهنا تؤدي الاحتفالات الجماهيرية الطقوسية والكرنفالية دورا مهما في الغرس الثقافي للنماذج المستوردة. أما المستوى الثاني، فهو الماثل في المعنى والدلالة والمرجع، حيث تفكيك معنى الطقوس والشعائر يقتضي تغيير وظائف الرموز والعلامات، فاحتفال بوجلود في السنوات الأخيرة، بات يتنكر لتقسيم أدوار المحتفلين بالطقس الاحتفالي، فبدل سبعة شبان وفق التقسيم السالف الذكر، بات الاحتفال عبارة عن كرنفال احتفالي جماهيري، حيث فضاء الاحتفال أو الركح بالتعبير المسرحي بات عبارة عن شارع ممتد وفضاءات مفتوحة يختلط فيها شخصيات بوجلود والناس عموما.

أما عن الموسيقى والتي تعتبر ذات أهمية في الإحالة عن المعنى والدلالة الثقافية، فلم تعد موسيقى أحواش، بل صارت موسيقى كرنفالية دخيلة، حيث أدمجت أدوات وآلات موسيقية غريبة عن فن أحواش، مقابل التخلي عنها نهائياً، وهو ما ينطبق على الملابس التنكرية التي كانت عبارة عن جلود الأضاحي، وأقنعة محلية الصنع، صارت عبارة أن ملابس الفايكينغ مع استعارة عدد من الرموز من احتفالهم مثلما يقام في اسكتلندا، وفي كل أوروبا، حيث صار من أشهر المهرجانات الكرنفالية، وهي احتفالات تعود إلى أسطورة الفايكينيغ، حيث للاحتفال ليلا بالشهب النارية وارتداء ملابس المحاربين والسيوف له دلالته في الإحالة على هذا الشعب، دون سواه، وإلا فاستعارة رموز وعلامات هذا المهرجان إلى جانب رموز وعلامات مهرجانات أخرى يجعلنا أمام هجنة ثقافية واستلاب حضاري رهيب.

ذلك أن للمعنى والدلالة مرجعا في الواقع الاجتماعي، ذلك أن تغيير الرموز والعلامات يستتبع وأحيانا يستبق تغييرا في المرجع، أي في الواقع الاجتماعي، ومن هنا تنشأ الغربة والاغتراب في الاحتفال الطقوسي، وهو ما يسهل مع الوقت الانسلاخ من الهوية الثقافية الأصلية. أما واقع شبكات التواصل الاجتماعي، فهو على مستويين، الأول احتفالي بالتفاهة وترميزها، وهو ما يجعل المتلقي الافتراضي يميل نحو كل ما هو جماهيري واحتفالي بغض النظر عن قيمه ومرجعياته الثقافية، والمستوى الثاني نخبوي، وهو يقسم المتلقين أي المغاربة القاطنين في شبكات التواصل الاجتماعي إلى مناصر ومشجع كطرف أول، ومنتقد ورافض كطرف ثان، مقابل إذكاء صراع هوياتي مفتعل عربي- أمازيغي، وفي كل الأحوال فشبكات التواصل الاجتماعي في ظل نظام التفاهة – حسب ألان دونو- قامت بترميز التافهين وتتجير القيم الثقافية لصالح النموذج الاستهلاكي.

كيف يمكن التعامل مع التصرفات غير اللائقة التي تحدث خلال المهرجان لضمان الحفاظ على احترام القيم والتقاليد المحلية؟

إن التحليل السياقي الذي قمنا به من خلال هذا الوصف للعلامات والرموز التي باتت تشكل الهوية البصرية لبوجلود، يجعلنا أمام تصور واضح ومفكر فيه من لدن الجهات التي قامت بإحياء هذا الاحتفال الطقوسي، منذ على الأقل ثلاث دورات سابقة، إذ لا يتعلق الأمر بتصرفات فردية غير لائقة، أو بنزوح فردي منعزل، بل برؤية تصورية واضحة، تعكس في نظري استيلابا ثقافيا وتهجينا للعلامات والرموز المؤسسة للثقافة الأصلية في عمقها الأمازيغي. وهنا أعتقد أن إعادة النقاش العمومي حول هذه الاحتفالات التي باتت تستورد خلفيات ثقافية غربية وغريبة عن الثقافة الأصلية أصبح ضرورة وطنية وقومية، وإلا فإن الخصوصيات الثقافية والهوية القومية باتت مهددة. ومعها طبعا قيم وأخلاق ورؤى المغاربة الثقافية والحضارية. وأنا هنا لا أتحدث عن بعض السلوكات الفردية المنافية للأخلاق والقيم، ذات المنزع الجنسي الفاحش، أو الاعتداء على المارة، إطلاقا، فهذه السلوكات تابعة وليست مستقلة، أنا أتكلم عن الجوهر الثقافي والقيمي لظاهرة احتفالية مغربية أمازيغية موغلة في القدم والخصوصية، وتعكس رؤى اجتماعية وثقافية وجب المحافظة عليها باعتبارها تراثا مغربيا غير مادي من حق كل المغاربة، وجب صيانته وتثمينه بعيدا عن كل استلاب وتهجين ثقافيين.

كيف يمكن للمجتمع المحلي والمشاركين في المهرجان إيجاد توازن بين الاحتفاظ بالتقاليد والانفتاح على التحديث دون الإخلال بالقيم الثقافية والدينية؟

أعتقد أن دور المجتمع المدني مهم، ودور وزارة الثقافة والدولة أهم في إعادة النظر ثقافيا وفنيا في تعاملها مع المهرجانات التراثية، فمطلب الانفتاح مطلوب، والتلاقح الثقافي مرغوب، ولكن ليس على حساب الخصوصية والأصالة، بل ترويجاً لها وإغناء لها، للمرور من المحلية إلى العالمية، ولا أعتقد أننا سنحقق هذا المرور باستعارة نماذج وعلامات ورموز غربية وغريبة، فالمهرجانات التراثية الغربية حققت العالمية بفضل الصناعات الثقافية وتثمين التراث، وليس باستعارة النماذج والرموز. ولذلك، سواء في المغرب أو في كل البلدان والشعوب لم يكن الاحتفال مجرد رقص وغناء، بل كان دوما رسالة في القيم وصونا للتقاليد والعادات ووصلا للأجيال بماضيها وتراثها.

ولهذا فالنقاش الذي بدأ ينتشر في مواقع التواصل الاجتماعي بين دعاة الحياة والقوى الظلامية، أو بين المكون الأمازيغي والعربي، أو بين الإسلام السياسي والقوى الليبرالية هو نقاش مغلوط وبات يتضخم وفق رؤية صراعية تفكيكية، لأن النقاش الحقيقي، هو هل تعكس هذه الاحتفالات التراثية، وبوجلود واحد منها فقط، الخصوصيات الثقافية والاجتماعية المغربية أم لا؟ وهل استعارة الرموز والعلامات والنماذج الاحتفالية الغربية والغريبة صحي أم لا، وهل هو مجرد اقتباس تقتضيه الحداثة والمعاصرة أم هو مخطط يستهدف الثقافة المغربية بمختلف أصولها الأنثربولوجية؟

أعتقد أن الأمر يعكس استلابا ثقافيا وتغريبا حضاريا خطيرا، وجب أن يتحول إلى نقاش عمومي من داخل مفاهيم الفن والفرجة والاحتفال بالقيم الثقافية المغربية، أما الإسلام فلم يكن يوما في تاريخ المغرب خلفية للصراع أو تدجين التحديث والمعاصرة، والدليل أن المواسم التراثية التي تحولت إلى مهرجانات في إطار تثمين التراث وصيانته كانت دوما فرصة شعبية للفرح والاحتفال، فما الذي حدث اليوم؟ هنا تمكن القضية، وهنا يمكن الخطر في ترميز التفاهة وتفكيك التراث والثقافة الأصلية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • Amna
    منذ يومين

    الشعب المغربي الاصيل المسلم المحب لله والرسول صلى الله عليه وسلم ، قادر بعون الله تعالى ان ينسف ويعزل اعداء المسلمين /المستغلين لمهرجان بوجلود التقليدي الترفيهي الشعبي .. يستغلون اجواء الحرية والانفتاح تتعدد الثقافات وانتشار حرية الاختلاف ووو .. كي ينشروا ثقافة الشرك والسعودية والشدود.. وما صار يعرف بالماسونية .. الله تعالى حافظ المغرب بتلاوة القرآن في البيوت واللقاءات والاغراء والنجمعات . والحمد لله .. الشعب المسلم كما قام يحملات مقاطعة مهرجان الرقص على جراح غزة وعلى معاناة العاطلين والفقهاء .. قادر بقدرة الله ان ينجح حملات لإسقاط مهرجان بوجلود الماسوني المعاصر .. بعون الله حفظ الله تعالى بلادنا وبلاد المسلمين من اي سوء ومكروه ..

  • علي
    منذ يومين

    التخربيقولوجيا