منوعات

حسن طارق يكتب ردا على جبرون: أربع ملاحظات من بعيد

نشر أمس صديقي العزيز الأستاذ محمد جبرون ، الباحث المجدد في الفكر السياسي الاسلامي ، وأستاذ الفلسفة ، والكاتب والمؤلف ، مقالة تحت عنوان “البجيدي ومواجهة التحكم.. في الحاجة إلى التخلي عن أطروحة الانتقال الديمقراطي”، يقدم فيها عناصر لأطروحة سياسية في قراءة المرحلة ، إنطلاقا من خلفية نقدية للأداء السياسي لحزب العدالة والتنمية .

يقر الصديق جبرون “من حيث المبدأ الديمقراطي، بأن هناك أكثر من سبب وجيه ومعقول يضفي الشرعية على مواقف الأحزاب الوطنية المغربية الرافضة للتحكم وآلياته بما فيها حزب العدالة والتنمية”، غير أنه يعتبر في المقابل ” أن تَنَزل هذا المبدأ في الزمان والمكان المغربيين وفي الظرف الإقليمي والدولي الراهن يطرح عدة تحديات وأسئلة تنال في جملتها من المعقولية المطلقة لأطروحة مواجهة «التحكم»، وخاصة في علاقتها بحزب العدالة والتنمية الذي يفترض فيه نوعا من الأصالة في الطرح السياسي.

بعد ذلك يقدم محاولة في تعريف التحكم ، باعتباره تدخل قوى مضادة للديمقراطية في الحياة السياسية بأساليب مختلفة … تعيد إنتاج شرعية الاستبداد وتحديثها من خلال ديمقراطية الواجهة”. وهو التدخل الذي أمسى يشكل ” لازمة ثابتة في معظم الاستحقاقات السياسية والانتخابية التي عاشها المغرب منذ الاستقلال” .

وإذا كان التحكم في القاموس السياسي الراهن،بالنسبة للأستاذ جبرون ، هو وصف توصف به الممارسات والأفعال ويغفل عمدا عن الحديث في الجهات التي تقف وراءه لأسباب يتفاوت الناس في إدراكها، فإن هذه الجهات لا تنفصل عن الملكية والجهاز المخزني الذي تُشْرِف . لذلك “وبالرغم من حداثة هذا الدَّال (اللفظ) في اللسان السياسي المغربي، وارتباطه بتجربة حزب العدالة والتنمية فإنه كمدلول قديم، وكان يُعبر عن فحواه بألفاظ أخرى تؤدي نفس المعنى المتداول حاليا، ومن أبرز هذه الألفاظ والعبارات الحزب السري، حزب الداخلية، حكومة الظل، المخزن، الدولة العميقة..”.

في هذا المقال ،وعبر هذه الملاحظات السريعة ،محاولة للإشتباك مع بعض الأفكار الواردة في مقالة الأستاذ جبرون ،والتي أقدر أنها لا تستدعي بالضرورة نقاشا داخليا لست معنيا به ،بقدر ما تساؤل كل الغيورين على فكرة التقدم الديمقراطي ببلادنا .

الملاحظة الأولى: في هشاشة زوج” التحكم /الديمقراطية “كثنائية مهيكلة للحياة السياسية !

يعتبر الاستاذ أن التحكم هو النقيض الموضوعي للديمقراطية والانتقال الديمقراطي، ومن ثم فامتداد التحكم واتساعه يعني بصورة واضحة انكماشا ديمقراطيا، وإجهاضا لآمال الانتقال الديمقراطي، كما أن استئناف المسلسل الديمقراطي وتراكم خطواته يعني – في الجهة الأخرى – انكماشا لقوى التحكم وتقهقرها. والحياة السياسية المغربية بعد الاستقلال وإلى اليوم هي جدل وتفاوض مجهض بين طرفي هذه الثنائية (التحكم/الديمقراطية).

من التعسف على الموضوعية إختزال كل التاريخ السياسي للمغرب المستقل،تحت عنوان هذه الثنائية ،ذلك أن النظام السياسي المغربي عرف منذ 1956 تحولات هامة ،تجعل من غير المستساغ ربطه بإبدال جوهري ثابت تحت مسمى “التحكم”،وهو الذي تحول بعض صراع المشروعيات بعيد الإستقلال،وطوال الستينيات إلى حكم فردي مطلق ،قبل أن يتحول إلى نظام سلطوي بواجهة ديمقراطية و انتخابات غير تنافسية و تعددية مراقبة ،بعد انطلاق ما عرف بالمسلسل الديمقراطي ،تم تتوالى منذ بدايات التسعينات محاولات الخروج المتردد من السلطوية ..

لذلك فالقراءة الدقيقة للنظام السياسي اليوم والتحديد المطابق لاستراتيجية الفاعل المركزي خلال هذه المرحلة ،يبقى أعقد بكثير من هذه التوصيفات “الإعلامية “والسريعة ،وقد تكون دلالة “التحكم” هنا أقل راديكالية من “الحقيقة السياسية “لطبيعة نظامنا السياسي! .
في المقابل فإن الطرف الثاني من الثنائية لايبدو كذلك مقنعا، فالديمقراطية كاختيار لدى قوى المعارضة ،لم تنضج نسبيا إلا في أواسط السبعينات ،بعد أن كانت التوجهات الغالبة داخل النخب المضادة للحكم ،تتوزع بين الاختيارات الثورية والبلانكية وغيرهما…

من السهولة،كذلك ، القول بإمكانية قراءة كل هذا التاريخ المعقد انطلاقا من هذا المفهوم الطارىء للتحكم ، حتى إذا اعتبرناه إمتدادا لغويا لمضامين قديمة نسبيا ،ذلك أن المقصود بالتحكم في السياقات الدلالية للمعجم السياسي الراهن لا يعني بالضرورة المعاني التي كانت تعطى في أزمنة سابقة للمخزن مثلا ،كما أنه لايماثل دائما المقصود بمفاهيم مجاورة مثل “الدولة العميقة”.

الملاحظة الثانية : في قدرية “التحكم” أو عدمية “التاريخ” !

يخلص الأستاذ جبرون بشكل مفاجئ إلى إن تجاوز إشكالية التحكم والدخول في عصر الديمقراطية بالنسبة للمغاربة نظاما وأحزابا يبدو وكأنه مستحيل في ضوء مقولة «الانتقال الديمقراطي»، والتي لم تنجح الحركة الوطنية والفصائل السياسية المغربية المختلفة على مدى ستين عاما تقريبا في تحقيق رهانها ، ليقر بشكل حاسم بأن “التحكم بهذا المعنى هو تعبير آخر عن الخصوصية المغربية السياسية”.

واضح جدا ،أن هذه القراءة تحمل موقفا عدميا واضحا من مسار تطور الحياة الديمقراطية ببلادنا ،وهو تطور نراه يذهب على العموم، بعيدا عن اي رؤية خطية لا تستحضر التعقد وممكنات التراجع ، في اتجاه التاريخ .

تم من جهة أخرى،يستمر مسلسل المفاجآت لكي يصبح “التحكم” جوهرا ثابتا و متعاليا على التاريخ ،لصيقا بخصوصية سياسية مغربية “لم ينجح الزمان في إضعافها والتقليل من آثارها”.

لكن قمة هذا القراءة العدمية تجد منتهى تحليلها ،عندما تقود الباحث إلى صياغة سؤال استنكاري غريب ،مفاده : “هل مقولة الانتقال الديمقراطي كأطروحة نظرية للنضال السياسي للأحزاب الديمقراطية الوطنية مقولة صحيحة ولا زالت صالحة لتأطير المبادرة السياسية الحزبية؟”.

مكمن الغرابة هنا يحيل إلى أن ما يعتبر “فشلا” حسب الباحث في محاولات التحول الديمقراطي ،قد يدعو بالضرورة إلى مراجعة “العقيدة” الديمقراطية للفاعلين أنفسهم ،ولاختياراتهم السياسية والمذهبية !.

الملاحظة الثالثة : في فشل مقولة الانتقال الديمقراطي وإكتشاف مقولة التوافق !

إن مقولة الانتقال الديمقراطي بالنسبة للاستاذ جبرون ” مظهر من مظاهر الفشل الثقافي في “تدبير الخصوصية في سياق بناء الدولة الوطنية الحديثة “، وتعبر في جانب كبير منها عن تمزقات الفكر السياسي المغربي في الستين سنة الماضية، بحيث كانت تستند إلى أطروحة تقدمية أو «سلفية» لا تأخذ بالاعتبار حجم التقليد ووجوده في المغرب، الشيء الذي جعلها إحدى مفردات الصراع وليست جوابا نضاليا وسياسيا لمرحلة معينة”.

وهكذا؛” فبناء نظام سياسي حديث بالمغرب والخروج النهائي من مأزق ثنائية التحكم/الديمقراطية، والقطع نهائيا مع تاريخ الصراع.. لا يحتاج ولن يتحقق باستدعاء مقولة الانتقال الديمقراطي وبعثها من جديد، بل يحتاج إلى تأليف مبدع بين التقليد والحداثة السياسية”.

في هذا المستوى ،تستمر المقاربة اللاتاريخية في الحضور،ذلك أن الأستاذ جبرون يقحم”مقولة الانتقال الديمقراطي “كمفهوم حديث في بنائه النظري ، وفي استعمالاته السياسية ،ليقرأ من خلاله بتعسف مستمر ما يعتبره أصولا ثقافية لأشكالية التحول الديمقراطي المعاق في بلادنا .

تم بعد ذلك يدعو إلى تجاوز هذه المقولة التي تحيل بالنسبة إليه إلى الصراع بين التحكم والديمقراطية ،نحو تأليف جديد بين التقليد والحداثة السياسية ،”بما يحفظ للملكية حضورها الفعلي، ويتيح للمواطنين المشاركة في السلطة من خلال ممثليهم”.
الواقع هنا أن هذا التحليل يقفز على فكرة التوافق السياسي بين الحركة الوطنية والديمقراطية وبين الملكية ،و التي طالما قدمها العقل السياسي المغربي،كتجاوز لحالة الصراع من جهة و كمرادف تاريخي لمقولة التحول الديمقراطي من جهة أخرى ،وهي الفكرة التي تبدو في مقالة الأستاذ جبرون كما لو أنها اكتشاف جديد و مذهل .

الملاحظة الرابعة : في غلق المطلب الديمقراطي كبديل عن تجاوز خطاب التحكم !

خطاب التحكم لدى العدالة والتنمية لا يعني بالنسبة للأستاذ جبرون ،غير كونه مأزقا سياسيا ،ولا يعني شيئا سوى الذهاب في نفس “سكة استعادة الصراع التقليدي الذي فوت على المغرب فرصة سانحة للتقدم والنهضة “،وهو ما يعني كذلك أن العدالة والتنمية سيؤدي نفس الثمن الذي سبق للآخرون أن قاموا بتأديته ،فالتشدد في” مواجهة التحكم لا يؤشر على فهم جديد ونوعي لظاهرة التحكم، ولا يؤسس لطور مختلف في العمل السياسي بالمملكة المغربية”.

أول “موقف/ مفتاح ،بالنسبة للباحث ،يجب أن يقدم عليه العدالة والتنمية ، كمدخل لتسوية هذه الإشكالية بصورة نهائية هو إعادة النظر في مقولة الانتقال الديمقراطي، التي أطرت النضال السياسي للحركة الوطنية المغربية منذ الاستقلال وإلى اليوم”!

لذلك “الحزبية المغربية اليوم مطالبة بإغلاق النقاش حول طبيعة النظام السياسي، وفي صلبه مسألة توزيع السلطة بين المؤسسات المنتخبة والملكية، ولا يمكن لهذا الحسم أن يتجاهل حقائق الماضي القريب والخصوصية التاريخية المغربية. فلم يعد – بالنسبة لي اليوم – مفهوما استمرار الأحزاب الوطنية المغربية على عقيدتها الأولى التي أنشأتها ظروف الاستقلال، ولا بد اليوم من ابتكار أطروحات سياسية جديدة تتجاوز عقدة الانتقال الديمقراطي إلى رهانات سياسية تنموية واقتصادية، وفي ظل شراكة حقيقية ومسؤولة مع الملكية، ومما لاشك فيه أن مثل هذا التحول سيفقد التحكم قيمته السياسية والاستراتيجية، وسيجعله مجرد عبء سياسي لا فائدة سياسية ترجى من وراءه”.

هذه هي خلاصة التحليل غير المتماسك لمقالة الأستاذ جبرون ،تحليل يربط بشكل عائم بين النضال الديمقراطي وبين منطق الصراع حول الشرعية ،ويعتبر بشكل “رجعي” و “فج” أن النضال السياسي للحركة الوطنية فوت على بلادنا سبل التقدم والرخاء ، و يقر بشكل “لاتاريخي” أن المكتسبات الدستورية الحالية نهائية ،ثم يعتبر بسذاجة غريبة أن الطريقة الوحيدة لهزم التحكم هي عدم مواجهته بل وعدم الحديث عنه!

وهو تحليل يحاول أن يستعير،بنوع من الاختزال وخارج أي تقارب في السياقات ، الكثير من “مراجعات “الحركة الديمقراطية واليسارية في السبعينات و التسعينات، وهي تكتشف فضائل التوافق والحلول الوسطى ،لكنه يقفز على جملة من الحقائق المفحمة، لعل أهمها أن الحزبية المغربية اليوم لم تعد تعتبر عموما مطلب اقتسام السلطة شرطا واقفا للمشاركة السياسية ،وأن سقف دستور 2011،يبدو لحد الآن مقبولا من لدن أغلبية الفاعلين ،وأن سؤال شرعية النظام السياسي لم يعد منذ عقود مطروحا داخل الساحة الحزبية ،وأن العدالة والتنمية يشتغل ضمن أطروحة الشراكة في البناء الديمقراطي . 

بل إن خطاب التحكم نفسه ،لا يعني في مضمونه أي منازعة في طبيعة النظام السياسي، حيث أن مذكرة العدالة والتنمية حول مراجعة دستور 2011،اثبتت محدودية و “واقعية ” رؤية الحزب لطبيعة المؤسسات ،كما أن خطاب “الإزدواجية “لا يعني في حقيقته سوى الدفاع عن الشرعية وعن احترام الهندسة الدستورية التي تقرها وثيقة يوليوز 2011.

هذه هي الثورة في الفكر السياسي المغربي التي يدعو إليها صديقي محمد جبرون :الإقرار العدمي بقدرية فشل التحول السياسي ،الحسم مع الأفق الديمقراطي للنضال السياسي ،والاستسلام لأعطاب المنظومة السياسية الحالية ،وإقبار أي رؤية تقدمية للمستقبل!
والطريق إلى هذه الثورة يمر عبر تحويل حزب العدالة والتنمية إلى حزب بدون هوية سياسية ، وإلى القضاء النهائي على أمل تبلور تيار مجتمعي بخلفية إسلامية،و بعقيدة ديمقراطية راسخة ،وبنفس إصلاحي تقدمي .

ربما كان سيكون من المفهوم أن يحصر الأستاذ جبرون النقاش في صبغة تكتيكية حول نجاعة التدبير السياسي للمرحلة ،أو حول حدة الخطاب السياسي المستعمل ،أو حول تقديرات اللحظة الانتخابية ،لكن أن يصبح السؤال هو القطع مع مقولة التحول الديمقراطي ،فهذا معناه أن النقاش تحول إلى السجل الاستراتيجي وهو ما يتضح من خلال “العدة النظرية “التي يستعملها المقال ،ومن خلال خلاصاته الكبرى ” المتسرعة”.

لذلك فالاستاذ جبرون كان عليه أن ينتبه إلى أن مواجهة العدالة والتنمية(أو بنكيران ) للتحكم، تعني كذلك أن الحزب انتقل -رمزيا على الاقل -في ظرف خمس سنوات من شعار محاربة الاستبداد إلى مجرد مواجهة “التحكم”!

وهذا وحده يدعو إلى التدبر والتأمل في مسار حزب سياسي في قلب مخاض التحول المعقد و الصعب ،فكريا و مذهبيا و سياسيا، إلى قوة ديمقراطية !