منتدى العمق

المقاربة التشاركية بالمغرب: من أداة للتنمية إلى شعار بلا مضمون؟

في المغرب، لطالما كانت “المقاربة التشاركية” إحدى المفردات المركزية التي تتردد في الخطابات السياسية ووثائق التخطيط التنموي. ومع ذلك، فإن هذا المفهوم، الذي يحمل في جوهره فلسفة إشراك المواطنين في اتخاذ القرارات التي تؤثر على حياتهم، لم يعد يحتفظ بمعناه الحقيقي في كثير من الأحيان. بل أصبح، في سياقات متعددة، مجرد أداة تسويقية تُستخدم لإضفاء الشرعية على سياسات وقرارات تكون غالبًا قد اتُّخذت مسبقًا.

إن المفهوم الحقيقي للمقاربة التشاركية يقوم على مبدأ دمج كافة الفاعلين، سواء كانوا مؤسسات حكومية، مجتمعًا مدنيًا، أو أفرادًا، في عملية متكاملة تبدأ من تحديد الأولويات، مرورًا بصياغة السياسات، وصولًا إلى تنفيذها وتقييمها. إنها عملية تهدف إلى تحقيق شراكة حقيقية بين الدولة والمواطن، ما يعزز من الشفافية، المحاسبة، والشعور بالملكية الجماعية للمشاريع. غير أن هذا المفهوم يواجه تحديات كبرى في المغرب، حيث يتم تمييعه بشكل متعمد أو غير متعمد، مما يجعل التطبيق الحقيقي له بعيد المنال.

تُعتبر المقاربة التشاركية أداة أساسية لتعزيز الديمقراطية التشاركية والتنمية المستدامة بالمغرب، حيث نص دستور سنة 2011 على مبدأ المشاركة الفعلية للمواطنين والمجتمع المدني في إعداد السياسات العمومية وتنفيذها وتقييمها. ورغم أن هذا المبدأ يشكل نقلة نوعية، فإن الممارسة الفعلية أظهرت تفاوتات كبيرة بين النصوص القانونية والواقع العملي.

على المستوى التشريعي، يُلزم الفصل 12 من الدستور السلطات العمومية بتوفير آليات لتنظيم مشاركة الجمعيات والمواطنين في صياغة القرارات والسياسات. كما تنص الفصول 136 و139 على وضع آليات تشاركية للجماعات الترابية لتشجيع المواطنين على تقديم عرائض ومقترحات. ومع ذلك، يبرز التحدي في غياب تطبيق فعال لهذه النصوص، حيث إن الكثير من السياسات تعتمد على المقاربة التشاركية كواجهة تسويقية بدل أن تكون نهجاً عملياً يضمن تحقيق التنمية المستدامة.

من أبرز النماذج التي أظهرت أهمية النهج التشاركي كانت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، التي حاولت دمج السكان المحليين في تنفيذ مشاريع التنمية. لكن التقارير تشير إلى أن هذا النهج يواجه عوائق مثل ضعف التكوين لدى بعض الفاعلين المدنيين وغياب المتابعة المنتظمة من قبل المؤسسات العمومية.

إحصائياً، أظهرت دراسة للمندوبية السامية للتخطيط أن 45% من المواطنين يعانون نقصاً في المعلومات حول المشاركة في السياسات الترابية. وبالنسبة للمجتمع المدني، فإن 60% من الجمعيات تشتكي من غياب الشفافية والوضوح في كيفية إدماجها في المشاريع الحكومية.

في الممارسة الفعلية، نجد أن المقاربة التشاركية تُستدعى في عدد من السياقات، إلا أنها تبقى سطحية وغير فعالة في معظم الأحيان. على سبيل المثال، في الحوار الاجتماعي، والذي يُفترض أن يكون منصة للتفاوض المفتوح والبنّاء بين الحكومة والفاعلين النقابيين والمجتمع المدني، يتم غالبًا تجاهل المطالب الحقيقية للفئات المستهدفة. تُعقد الاجتماعات، وتُوقع الاتفاقيات، لكن نتائجها في كثير من الأحيان لا تعكس مصالح الفئات العمالية أو الاجتماعية التي يُفترض تمثيلها.

أما على مستوى برامج التنمية المحلية، فإن المقاربة التشاركية تتحول إلى مجرد إجراءات شكلية. تُعقد “استشارات” مع السكان، لكنها في الغالب تكون جلسات لإضفاء شرعية على مشاريع جاهزة، دون أن تُتاح للسكان فرصة حقيقية للتأثير أو تقديم بدائل. تُعرض الخطط بشكل مبسط، وغالبًا ما تُطرح في أوقات ومواقع لا تناسب الغالبية، مما يحد من مشاركتهم.

قطاع الصحة يُعد مثالًا واضحًا على هذه الأزمة. رغم التحديات الكبيرة التي يواجهها المواطنون يوميًا في الحصول على خدمات صحية ذات جودة، فإن إشراكهم في تصميم السياسات الصحية يظل غائبًا. الخطط تُصاغ في مكاتب مغلقة، والاستراتيجيات تُعلن دون أي محاولة لإشراك المهنيين الصحيين أو المستفيدين من الخدمات في وضعها أو تقييمها.

هذا التمييع للمفهوم له أسباب متعددة، بعضها مرتبط بالبنية المؤسسية، والبعض الآخر بطبيعة الثقافة السياسية السائدة. من بين الأسباب الرئيسية هناك ضعف الوعي لدى عدد كبير من الفاعلين السياسيين والإداريين بماهية المقاربة التشاركية كعملية مستدامة. يُنظر إليها في الغالب كإجراء شكلي، أو كوسيلة لتجنب الانتقادات، دون إدراك دورها في تحسين جودة السياسات.

كما أن المجتمع المدني، الذي يُفترض أن يكون شريكًا أساسيًا في تفعيل المقاربة التشاركية، يعاني من مشكلات هيكلية. عدد كبير من الجمعيات غير قادر على أداء دوره بفعالية، إما بسبب نقص الموارد والكفاءات، أو بسبب تبعيته السياسية والمالية، مما يجعله غير مستقل في طرح القضايا والدفاع عن المصالح العامة. بالإضافة إلى ذلك، فإن غياب الشفافية والمعلومات الدقيقة يجعل من الصعب على المواطنين المشاركة بشكل واعٍ ومبني على أسس واضحة.

إذا كان الهدف هو تجاوز هذه الإشكالات واستعادة جوهر المقاربة التشاركية، فلا بد من خطوات جريئة وإصلاحات شاملة. أولًا، يجب العمل على رفع الوعي المجتمعي والسياسي بأهمية المشاركة كحق وليس كامتياز تُمنحه السلطات. ثانيًا، يجب تعزيز الإطار القانوني والمؤسسي الذي يُلزم الجهات الحكومية والمؤسسات الخاصة بتبني نهج تشاركي حقيقي.

التكنولوجيا يمكن أن تكون حليفًا رئيسيًا في هذا المجال. تطوير منصات رقمية تتيح للمواطنين التعبير عن آرائهم، اقتراح الأفكار، وحتى متابعة مراحل تنفيذ المشاريع، يمكن أن يعزز من شعورهم بالمشاركة الفعلية. كما أن تمكين المجتمع المدني، عبر دعم الجمعيات ذات الكفاءة والاستقلالية، سيخلق فضاءً حقيقيًا للنقاش البناء.

تمييع مفهوم المقاربة التشاركية لا يعكس فقط أزمة في السياسات العمومية، بل يكرس أزمة ثقة أعمق بين المواطن والدولة. إعادة الاعتبار لهذا المفهوم تتطلب الالتزام بتطبيقه بروحه الحقيقية، بعيدًا عن الشعارات الجوفاء. إن أي عملية تنموية لا تأخذ بعين الاعتبار احتياجات وتطلعات المواطنين وتضمن إشراكهم الحقيقي، تظل قاصرة وعرضة للفشل. المستقبل يتطلب تغييرًا جذريًا في طريقة التفكير والعمل لضمان تنمية مستدامة وشاملة تعود بالنفع على الجميع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *