أزمة المعهد الفرنسي بالجزائر امتداد للاعتراف بمغربية الصحراء

من يتأمل في المشهد الراهن يدرك أن الضجة التي فجرتها الصحافة الجزائرية ضد المعهد الفرنسي بالجزائر لم تكن مجرد حادثة معزولة، بل انعكاس مباشر لتحول استراتيجي قلب قواعد اللعبة في المنطقة. فقرار باريس الاعتراف بمغربية الصحراء مثل لحظة قطيعة مع سياسة التوازن التقليدية التي طالما حاولت فرنسا الحفاظ عليها بين الرباط والجزائر. هذا القرار كان بمثابة إعلان صريح بأن المغرب صار الشريك الأول بلا منازع، فيما أُقصيت الجزائر إلى موقع ثانوي. ولأن الجزائر لم تملك أدوات للرد في ميدان السياسة والدبلوماسية الدولية، فقد اختارت أن تنقل المعركة إلى الداخل عبر استهداف رموز الحضور الفرنسي، لتصورها للرأي العام كأوكار تجسس وامتداد للهيمنة.
هكذا تحول المعهد الثقافي، الذي ظل لعقود أداة للتبادل الأكاديمي والفني، إلى ساحة مواجهة سياسية، يستخدم فيها خطاب التخوين والتجنيد لبناء صورة عدو خارجي متربص. فما يلفت النظر ليس قوة الأدلة المقدمة، بل طبيعة الخطاب الذي يخلط بين الثقافة والأمن، ويحول دروس اللغة الفرنسية إلى أدوات استقطاب، والمطاعم الصغيرة إلى غرف عمليات استخباراتية. إنها محاولة لجر المجتمع إلى معركة شاملة ضد فرنسا، وكأن السلطة تريد أن تقول: إذا خسرت الجزائر الجولة الدبلوماسية في ملف الصحراء المغربية، فلن تخسر معركة السيادة داخل حدودها.
إن هذا التصعيد الإعلامي لا يمكن فصله عن أزمة الهوية السياسية التي تعيشها السلطة الجزائرية؛ فهي لم تستطع أن تفسر لشعبها كيف تجرأت فرنسا على الانحياز الكامل للمغرب، ولم تجد أفضل من استحضار شبح المؤامرة الثقافية لتعويض هذا الفشل. وبذلك، فإن ما يعرض للرأي العام باعتباره معركة أمنية هو في الحقيقة محاولة لترميم صورة مهتزة، وإقناع الداخل بأن الجزائر لا تزال قادرة على مواجهة فرنسا في ميادين أخرى. لكن المفارقة أن هذه الحرب الإعلامية تظهر أكثر مما تخفي: فهي تكشف حجم القلق الذي أحدثه الاعتراف بمغربية الصحراء، وتبرز عجز الجزائر عن التأثير في مسار سياسي أصبح خارج نطاق سيطرتها.
في المقابل، تلتزم باريس صمتا محسوبا. فلا ردود رسمية ولا بيانات شجب، بل سياسة انتظار واعية، تدرك من خلالها أن الدخول في سجال إعلامي يمنح الاتهامات أكثر مما تستحق. ففرنسا تعلم أن المعركة الحقيقية ليست في الجزائر العاصمة، بل في نيويورك وبروكسيل والعواصم الغربية، حيث تتسع رقعة الاعتراف بمغربية الصحراء يوما بعد آخر. ومن هنا، يصبح الصمت الفرنسي رسالة بحد ذاته: رسالة ثقة في المسار الاستراتيجي الجديد، وإصرار على المضي فيه رغم كل الضغوط.
لا يمكن فهم الهجوم على المعهد الفرنسي إلا باعتباره جزءا من استراتيجية أوسع تسعى من خلالها الجزائر إلى تحويل صراعها مع فرنسا إلى حرب متعددة الواجهات. فبعد أن فقدت ورقة الصحراء المغربية في الساحة الدولية، اختارت أن تنقل المعركة إلى الميدان الثقافي، والإعلامي، بل وحتى الاقتصادي، لتظهر أنها لا تزال قادرة على إرباك خصمها. لكن هذا الخيار لا يغير من الواقع شيئا، بل يضاعف من عزلة الجزائر، لأن فرنسا التي حسمت موقعها إلى جانب المغرب، لن تتراجع تحت ضغط حملات إعلامية أو إجراءات شكلية. وهكذا، يتحول الصراع الثقافي إلى غطاء لأزمة سياسية عميقة، تخفي وراءها إدراكا ضمنيا بأن ملف الصحراء قد حسم لصالح المغرب.
فالجزائر تحاول عبر خطاب التجسس الثقافي أن تضع فرنسا في خانة العدو الكامل، متناسية أن هذا الخطاب لا يقنع المجتمع الدولي بقدر ما يعكس صورة بلد يرفض الاعتراف بواقع جديد. وفي الوقت الذي تنشغل فيه السلطة بتأثيث سردية المؤامرة، يمضي المغرب في ترسيخ مكاسبه الدبلوماسية والاقتصادية، ويستثمر اعتراف فرنسا كخطوة نوعية تعزز مكانته كشريك استراتيجي أوروبي وأفريقي. هنا تتضح المفارقة: الجزائر تحشد الرأي العام في الداخل حول معركة ثقافية رمزية، بينما المغرب يحصد الاعترافات ويعزز تحالفاته في الخارج.
وما يزيد الوضع خطورة هو أن هذا النهج الجزائري لا يقتصر على فرنسا وحدها، بل ينذر بتوسيع دائرة العداء مع شركاء أوروبيين آخرين إذا ما ساروا في الاتجاه نفسه. فالرهان على افتعال أزمات جانبية قد ينجح في تأجيل لحظة الاعتراف بالهزيمة، لكنه في النهاية يسرع من عملية تهميش الجزائر في محيطها الإقليمي والدولي. فالاعتراف بمغربية الصحراء لم يعد قرارا فرنسيا معزولا، بل هو جزء من مسار دولي يتسع يوما بعد آخر، والجزائر بتصعيدها الإعلامي لا تفعل إلا أنها تعزل نفسها أكثر.
إن الأزمة الحالية تعكس إذن حقيقة أعمق: فالمغرب استطاع أن يفرض روايته التاريخية على الساحة الدولية، بينما الجزائر عالقة في خطاب الماضي. وما يقال عن المعهد الفرنسي أو الاختراق الثقافي ليس سوى محاولة لإعادة إنتاج ذاكرة استعمارية لم تعد تنفع في مواجهة تحولات الواقع. فالمسألة لم تعد مجرد خلاف دبلوماسي، بل أصبحت عنوانا لتحول استراتيجي يعيد رسم خرائط النفوذ في المنطقة، ويؤكد أن المستقبل سيكون لصالح المغرب وفرنسا معا، فيما تدفع الجزائر ثمن إنكارها للحقائق الجديدة.
حين ننظر في عمق الأزمة التي اندلعت حول المعهد الفرنسي بالجزائر، ندرك أن المسألة لم تكن سوى مظهر خارجي لصراع استراتيجي أكبر بكثير. فاتهام مؤسسة ثقافية بأنها تتحول إلى واجهة للتجسس لا يمكن قراءته خارج السياق الذي أحدثه اعتراف باريس بمغربية الصحراء؛ إذ أن هذا الاعتراف لم يكتف بخلخلة ميزان التحالفات التقليدية في المنطقة، بل كشف أيضا عن انزياح فرنسا نحو تبني رؤية مغربية صريحة، بما جعل الجزائر تدرك أنها فقدت واحدة من أهم دعائمها الدبلوماسية في أوروبا. هذه الخسارة لم تجد السلطة الجزائرية من سبيل لتعويضها إلا بالهجوم على رموز الوجود الفرنسي، وفي مقدمتها المعهد، لتعيد إنتاج خطاب المقاومة والسيادة.
بهذا المعنى، يصبح المعهد أكثر من مجرد فضاء ثقافي: إنه أداة رمزية توظفها الجزائر لتعبئة الداخل في مواجهة انكشافها الخارجي. فحين تتحدث الصحف الرسمية عن تجنيد واختراق ثقافي، فهي لا تقدم أدلة مادية بقدر ما تبني سردية سياسية تحاول من خلالها تصوير فرنسا كخصم شامل، يمتد تأثيره من ملفات الأمن إلى اللغة والفنون. إنه منطق المعركة الشاملة الذي تلجأ إليه الأنظمة حين تفقد أوراق القوة الواقعية على طاولة التفاوض، فتسعى إلى إعادة التوازن عبر خلق عدو دائم يسهل تعبئة الجماهير ضده.
غير أن هذا التكتيك يحمل في طياته مفارقة خطيرة؛ إذ إنه يسلط الضوء أكثر على حجم العزلة التي تعيشها الجزائر، بدل أن يخفف منها. فكلما رفعت خطاب التخوين ضد المؤسسات الثقافية الفرنسية، كلما رسخت في المقابل صورة فرنسا كفاعل استراتيجي متماسك إلى جانب المغرب، لا كقوة استعمارية مترددة كما تحاول الجزائر تصويرها. وهذا ما يفسر صمت باريس: فهي تدرك أن الرد المباشر يمنح الاتهامات وزنا سياسيا هي لا تستحقه، بينما ترك الضجيج الإعلامي دون صدى رسمي يبقي المبادرة في يدها.
هكذا نرى أن أزمة المعهد ليست سوى عرض من أعراض تحول أعمق في ميزان القوى. فهي تعكس عجز الجزائر عن التأثير في قرار استراتيجي بحجم اعتراف فرنسا بمغربية الصحراء، وتحاول أن تعوض هذا العجز بافتعال معارك جانبية. لكنها بذلك تكرس صورة بلد يواجه انعطافة تاريخية بسلاح البلاغة والاتهامات، بينما خصمه يعيد رسم خرائط النفوذ الإقليمي على أسس جديدة.
إن الأزمة الراهنة تكشف أن الصراع بين الجزائر وفرنسا لم يعد مجرد تنافس تقليدي على النفوذ في المنطقة، بل أصبح صراعا وجوديا على المكانة والدور. فالمغرب، وقد ضمن دعما استراتيجيا من باريس لقضيته الوطنية في الصحراء، يتقدم اليوم كحليف رئيسي في ملفات الطاقة والأمن والهجرة، فيما تجد الجزائر نفسها محاصرة بخيارات محدودة، ومضطرة إلى افتعال جبهات صدام ثقافي ودبلوماسي تعويضا عن خسارتها في ملف الصحراء المغربية.
لقد اختارت الجزائر أن تحول المواجهة إلى كل الميادين: من المعهد الثقافي إلى الإعلام الرسمي، ومن ملف الهجرة إلى التعاون الأمني في الساحل. لكنها بذلك تكشف أكثر عن طبيعة الأزمة التي تواجهها: أزمة رؤية استراتيجية قادرة على التعامل مع تحولات الواقع. فبدل أن تبحث عن موقع جديد في معادلة إقليمية تتغير بسرعة، تنغمس في خطاب المؤامرة الذي يعمق عزلتها ويمنح خصومها فرصة تعزيز مواقعهم.
إن ما لم تستوعبه الجزائر بعد، هو أن الاعتراف الفرنسي بمغربية الصحراء لم يكن قرارا عابرا، بل بداية مسار طويل يعيد تشكيل أولويات باريس في المغرب الكبير. هذا يعني أن كل التصعيد ضد فرنسا لن يغير من جوهر التحالف الفرنسي المغربي، بل قد يدفعه نحو مزيد من الترسخ. وهنا تكمن خطورة الاستراتيجية الجزائرية: فهي تفتح على نفسها جبهات استنزاف متتالية، دون أن تملك القدرة على حسم أي منها.
من هذا المنظور، فإن الاتهامات الموجهة إلى المعهد الفرنسي ليست سوى حلقة أولى في سلسلة أزمات مقبلة. فقرار فرنسا بالاعتراف بمغربية الصحراء كان الشرارة التي ستعيد رسم خريطة النفوذ في شمال إفريقيا، والجزائر اليوم أمام خيارين: إما أن تتكيف مع هذه الحقيقة وتبحث عن مسارات جديدة لشراكاتها، أو أن تواصل سياسة الإنكار والتصعيد، لتجد نفسها في نهاية المطاف معزولة عن أهم دوائر القرار الدولي. وفي كلتا الحالتين، يبقى المعهد الفرنسي رمزا عارضا لمعركة أعمق، عنوانها الحقيقي هو التحول الاستراتيجي الذي فرضه الاعتراف بمغربية الصحراء.
اترك تعليقاً