منتدى العمق

الخبير: بين التصور العامي والعلمي

من المفترض أن قارئ هذه الأسطر سمع أو قرأ أو صادف ذات يوم مفهوم الخبرة أو مصطلح الخبرة إن صح التعبير، ولا نرجح في ورقتنا هذه أن الخبرة مجرد مصطلح، بل أن استعمالاته اليومية خاصة بين غير العارفين بها لا تكاد تتجاوز “المصطلح”. تأتي هذه الورقة المتواضعة لرفع نوع من الضبابية عن هذا المفهوم بالكشف عن التصور العامي الذي يعطيه عامة الناس لمفهوم الخبرة، وبالذات “الخبير” والتصور العلمي الذي ينطوي عليه مفهوم الخبرة في الكتابات العلمية.

إن الخبرة خاضعة لنفس المنطق الذي تخضع له الظواهر السوسيولوجية، حيث أن لها تصورا عاميا يحجب عنّا الحقيقة المهمة لهذا المفهوم، والمفترض ممن يود بناء فكرة أكثر دقة على مفهوم الخبرة، “أن يتحرر من تلك الآراء البديهية الكاذبة التي تسيطر على عقول العامة من الناس، وأن يزيح عن كاهله نير قواعد التفكير التقليدي”(دوركهايم،2011، ص83).

إن إزاحة هذا الحجاب الذي يزيف لنا مفهوم الخبرة العلمي لا يمكن إلا بمعرفة هذا الحجاب أولا، ومن هنا ننطلق من الأسئلة التالية؛ ما التصور العامي الذي نعرفه والذي كوناه عن الخبرة؟ وما هو الخبير بالنسبة لعامة الناس؟  وما هي الخبرة والخبير في التصور العلمي؟

كي نضع القارئ في السياق فالخبير والخبرة التي تتحدث عنها هذه الورقة لا تتعلق بالخبرة القضائية التي هي معروفة في الوطن العربي أو تلك المتعلقة بالخبرة الطبية. لكن نساءل الخبرة والخبير في مجالات العلوم الاجتماعية والإنسانية وهؤلاء الأشخاص الذين يدعون أنهم خبراء في مجال معين، خاصة مع الانتشار الواسع لمواقع التواصل الاجتماعي ولوسائل الإعلام وتعدد القضايا التي أصبح العديد من الأشخاص يقدمون أنفسهم إزائها على أنهم خبراء في تلك القضايا. لكن العامة من الناس لا يسائلون هذه الصفة ومن منحها لهذا الشخص دون سواه؟

إن ما يعرفه العامة من الناس[*] حول الخبير لا يزيد عن كونه ذلك الشخص الذي يمارس مهنة معينة ولكثرة عمله أصبح خبيرا بالمجال، ونتحدث هنا بالذات إذا أردنا التعبير عن هذا النوع من الخبراء عن خبراء تقنيين، لكن ليس بمعنى أنهم حصلوا على شواهد معينة في مهنتهم ولكن عملهم أكسبهم خبرة بالمجال الذي يزاولونه، فأصبحوا يقومون بعملهم بطريقة تقنية ودقيقة. من جهة أخرى فهناك نوع من الأشخاص الذين يقدمون أنفسهم كخبراء خاصة في المجال العقاري نظرا لمعرفتهم بالأراضي التي تُعرض للبيع كذلك، لأنهم يُقيمون علاقات مع السلطات المحلية والفاعلين فيها، وهو ما يضع في أيديهم سلطة لا تُخوّل لأي شخص آخر، لذا فتقديمهم لأنفسهم كخبراء، يستمد جذور شرعيته -بالمعنى الفيبري- من علاقاته بالسلطة وثقة المجتمع فيه والأشخاص الذين يتعاملون معه، ناهيك أن هذا النوع من الخبراء (السماسرة) يورثون أبنائهم هذه الخبرة.

إلى جانب هذا النوع من الخبراء هناك أفراد آخرين يقدمهم الإعلام على أساس أنهم خبراء في مجال معين فيؤطرون الرأي العام ويوجهونه دون أي خبرة علمية رصينة، وهو ما يمكن أن ينتج عنه مشاكل اجتماعية خاصة في ظل تفشي التلقي السلبي من طرف المترددون على مواقع التواصل الاجتماعي، وأبسط مثال هو حدة النقاش حاليا في مواقع التواصل الاجتماعي حول الأمازيغية والعربية، وإن صح التعبير في خطاب الأصل بالذات، الذي لا يجب أن يطرحه أي عاقل اليوم.

إن السؤال الذي سيطرح الآن ويطرحه قارئ هذه الأسطر هو: إذا لم يكن ما تم تقديمه صفات يحملها الخبير فما الخبير الحقيقي إذن؟ وما الذي يميز هذا الخبير عما نعرفه عن الخبير؟

إن الاستعمالات المبسطة للخبرة وغياب الاحتكاك بدراساتها ومكاتبها في الوطن العربي زاد من الفجوة بين المعرفة العلمية والخبرة وعدم معرفة الناس ولو معرفة عادية بها. عكس ما يقع في العالم الأوروبي فالاحتكاك بالخبرة واستعمالاتها اليومية “ستؤدي للاختفاء التدريجي للحدود بين المعرفة العادية والمعرفة الخبيرة، وهذا يعني أن دراسات الخبرة ساهمت في الرفع من منسوب المعرفة لدى المجتمعات”(لشكر،2021، ص304).

من هنا فمن البديهي إذن ألاّ يكون الخبير الذي سيساهم في الرفع من منسوب المعرفة لدى المجتمعات هو ما أشرنا له فيما يعرفه عامة الناس عن الخبير. إن الخبير سوسيولوجيا أيضا يستعصي على الباحثين تحديده بدقة، ومن خلال العديد من التعاريف التي عرضها الباحث (نور الدين لشكر) في مؤلفه “في سوسيولوجيا الخبرة والخبراء”، يمكننا القول إن الخبير بعيد عن التقنية وبعيد عن التجربة كما فصل في ذلك “زيجمونت باومان” بين الخبرة والتجربة، إن الخبير إذن يجب أن يمتلك قدرات ومهارات وتكوين واسع يمكنه من الابداع ومن النظر إلى المشاكل التي تطرح أمامه انطلاقا من عدة زوايا، وهو أمر لا يقوم به التقني، إن الخبير حاله حال الباحث كما أشار لذلك (الباحث نور الدين لشكر)، فكلاهما يستخدمان المعرفة لخدمة التنمية بشكل عام. إن أي تعريف يُقدم هنا يبقى جافا دون معايير، ومن بين أهم المعايير التي يجب أن تتوفر في صفة الخبير. توفره على شهادات وديبلومات جامعية، كذلك أن يتمكن من اللغات غير لغته الأم، كما أنه يجب أن يتوفر على أبحاث علمية، وأن يكون مشتغلا مع مكاتب الدراسات، وأن تكون له تجارب بحث ميدانية، وأنّ الخبير كما تشير له عدة دراسات يجب أن تكون له تجربة لأكثر من 11 سنة في ميدانه. إن هذه المعايير ليست معايير محددة ومطلقة لكنها تفي كي نميز بين الخبير الحقيقي وبين من يدعي صفة خبير، كما أن صفة الخبير من هذا المنطلق ليست لصيقة بصاحبها، فهي تمنح بالاستحقاق وتُنزع كذلك.

المراجع:

إميل، دوركايم. قواعد المنهج في علم الاجتماع، ترجمة محمود قاسم، ط 1 .2011. المركز القومي للترجمة. القاهرة.

لشكر نور الدين. 2021 “العلوم الاجتماعية بين الباحث الجامعي والخبير: أوجه التشابه والإختلاف”. المركز الديموقراطي العربي. الجزء الثاني. ص (301-312).

[*] ما يتم تقديمه هنا على أنه أفكار العامة من الناس، هو تجميع لمقابلات مفتوحة مع العديد من الافراد، تحمل سؤال مفتوح؛ من هو الخبير بالنسبة لك؟ وكذلك نتاج لما نعرفه كأفراد عاميين قبل تلقي المعرفة العلمية عن الخبير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *