وجهة نظر

بين الوطني والترابي: هل ينجح الإصلاح الانتخابي في تجاوز “مغرب السرعتين”؟

يتهيأ المغرب لمراجعة منظومته الانتخابية في لحظة سياسية مفصلية، حيث يتجاوز النقاش حدود التقنية القانونية إلى أسئلة أعمق تتعلق بالشرعية الديمقراطية وبكيفية ربط المشاريع الوطنية الكبرى بالانتظارات المحلية للمواطنين.

فالبرلمان باعتباره مؤسسة تمثيلية وتشريعية يحدد الإطار العام للسياسات العمومية، لكنه لا يكتسب قوته إلا من شرعية المشاركة الشعبية، فيما تظل الجماعات الترابية الفضاء الأوسع لتجسيد هذه السياسات حيث يقاس نجاح الدولة من خلال الخدمات اليومية: النقل، التعمير، النظافة، والأنشطة الاقتصادية المحلية.

غير أن العلاقة بين المستويين الوطني والترابي بقيت في التجربة المغربية علاقة متوازية أكثر منها متكاملة، وهو ما أدى إلى فجوة بين وعود السياسات العمومية وتوقعات المواطن.

اليوم يواجه المغرب تحديًا خاصًا: فبفضل رهاناته القارية والدولية، وعلى رأسها الاستحقاقات الرياضية الكبرى وفي مقدمتها كأس العالم 2030، أصبحت البرامج الاستراتيجية الوطنية موجودة ومحددة. هنا يبرز إشكال جديد: إذا كانت البرامج الكبرى جاهزة فإن الحاجة لم تعد إلى مزيد من التصورات العامة بل إلى كفاءات قادرة على التنزيل الميداني.

غير أن ذلك لا يعني أن الأحزاب السياسية معفاة من دورها، أو أن وجود برامج وطنية جاهزة يبرر استقالتها من الشأن العام على مستوى التخطيط الترابي، بل على العكس فهي مطالبة أكثر من أي وقت مضى بوضع برامج محلية تكميلية تعالج الاختلالات المجالية وتضمن عدالة في توزيع ثمار التنمية.

وكما أكد صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله في رسالته الموجهة إلى المشاركين في المؤتمر الرابع لمنظمة المدن والحكومات المحلية المتحدة (2 أكتوبر 2013): «إذ لم يعد مستساغا اليوم أن تبقى المدن والمجالات الترابية مجرد فضاءات لاستهلاك السياسات الوطنية من دون أن تكون فاعلا رئيسيا في صياغتها وتنفيذها. فالتحديات التي تواجهها المجتمعات الحضرية – من نقل وسكن وتشغيل وبيئة – أصبحت معقدة إلى درجة تجعل من اللامركزية والجهوية المتقدمة خيارا لا رجعة فيه.» هذه الرؤية تعطي للنقاش حول مراجعة القوانين الانتخابية بعده الاستراتيجي العميق، إذ تضع الجماعات الترابية في قلب الإصلاح الديمقراطي.

وتجربة ألمانيا تقدم هنا دروسًا مهمة. فالنظام الفيدرالي الألماني يقوم على مبدأ تكامل المستويات: البرامج الوطنية الكبرى تصاغ على المستوى الفيدرالي لكنها لا تجد معناها إلا عبر تنفيذها في الولايات والبلديات التي ليست مجرد منفذة بل تملك هامشًا من المبادرة يجعلها تكيّف السياسات مع حاجات ساكنتها. وهكذا يصبح النجاح الوطني انعكاسًا للنجاح المحلي، والفشل المحلي عقبة أمام تحقيق الأهداف الوطنية.

هذا التوازن الدقيق بين المركز والفروع مكّن ألمانيا من بناء نموذج ديمقراطي متماسك حيث لا تعفي البرامج الوطنية الأحزاب من مسؤوليتها في تدبير الشأن المحلي بل تزيدها ثقلاً ومحاسبة.

ومن المفيد التذكير هنا بأن صاحب الجلالة الملك الحسن الثاني رحمه الله عبّر عن ذلك بوضوح في حواره مع الصحفي الفرنسي إريك لوران، المنشور في كتاب Mémoire d’un Roi (1993، ص 152)، حين قال: «Je rêve d’un Maroc fédéral, mais je ne peux pas me permettre de le dire trop fort. Car dans notre situation, ce serait pris pour une volonté de démembrement. Pourtant, le fédéralisme est une manière de gouverner moderne et adaptée à l’avenir.» (أحلم بمغرب فدرالي، لكن لا يمكنني أن أصرّح بذلك بصوت عالٍ، لأن وضعنا قد يجعل ذلك يُفهم كإرادة في التفكيك.

ومع ذلك، فالفيدرالية أسلوب حكم عصري ومتلائم مع المستقبل). إن إدماج هذا البُعد التاريخي في النقاش الحالي يبرز أن التفكير في تكامل المستويين الوطني والترابي ليس أمرًا وافدًا بل جزءًا من تطور الدولة المغربية نفسها.

في المغرب، يُفترض أن يقود الإصلاح الانتخابي نحو هندسة سياسية جديدة قوامها برلمان يستمد شرعيته من مشاركة واسعة ويمارس وظيفة تشريعية ورقابية فعالة، وجماعات ترابية مدعمة بالكفاءات قادرة على تنزيل البرامج الاستراتيجية الكبرى وتحويلها إلى خدمات محسوسة، وأحزاب سياسية تعي أن دورها لا ينحصر في إنتاج الخطاب الوطني بل يمتد إلى صياغة حلول محلية تعيد الاعتبار للمجالات المهمشة وتقلص من ظاهرة “المغرب بسرعتين”.

إن ورش مراجعة القوانين الانتخابية لا يجب أن يُختزل في تقنيات الاقتراع أو في النقاش حول العتبة الانتخابية بل يجب أن يكون مناسبة لطرح سؤال جوهري: هل يمكن تحويل الديمقراطية المغربية من مجرد آلية تمثيلية مجزأة إلى مشروع سياسي متكامل يجعل من كل سياسة وطنية سياسة محلية في الوقت نفسه؟

* الحسين نصرالله، نائب برلماني ونائب رئيسة مجلس جماعة الدارالبيضاء

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *