حوارات

بعد الجدل.. إدريس الناجح يفكك أزمة الدراجات النارية ويدعو لاستغلال المهلة لوضع استراتيجية جذرية

إدريس الناجح، الخبير الأكاديمي المتخصص في السلامة الطرقية،

قال إدريس الناجح، الخبير الأكاديمي المتخصص في السلامة الطرقية، إن قرار رئيس الحكومة توقيف الحملة ضد الدراجات النارية كان صائبا، لكنه تأخر بعض الشيء، مشددا على أن معالجة الظاهرة لا يمكن أن تتم بحملات معزولة، بل تتطلب سياسة عمومية متكاملة تراعي الأبعاد التقنية والقانونية والاجتماعية والاقتصادية.

وشدد الناجح، في حوار مع جريدة “العمق”، على أن القيمة الحقيقية للقرار تكمن في استغلاله لإعادة تقييم الموقف ودراسة الملف بكل أبعاده بعيدا عن “الهواجس الانتخابية”، معتبرا أن الحملة لم تكن ضرورية في غياب سياسة عمومية مكتملة الجوانب، خاصة وأن آلاف الدراجات النارية التي تسير بسرعة تتراوح بين 100 و140 كلم/ساعة تخالف أوضاعها التعريفية، ما يشكل خطرا حقيقيا.

وأكد الخبير في السلامة الطرقية المقيم بألمانيا، أن القضية تتجاوز التعاطف مع المواطنين المتضررين إلى ضرورة معالجة خلل خطير تترتب عنه عواقب وخيمة على السلامة الطرقية، مبرزا أن حوادث الدراجات النارية تمثل 30% من مجموع الحوادث المسجلة، وهو ما يستدعي تدخلا حازما لكنه مدروس.

وردا على التساؤلات حول دقة المعيار التقني (57 كلم/ساعة) لتحديد التعديل في الدراجات من فئة 49cc، أوضح الخبير أن هذا الرقم يمثل هامشا كافيا (7 كلم/ساعة إضافية على المعيار الدولي المحدد بـ50 كلم/ساعة) لاستبعاد العوامل المؤثرة على السرعة مثل وزن السائق أو حالة المحرك، معتبرا أن هذا الهامش كافيا لجعل القانون المغربي يتماشى مع التشريعات الدولية التي تحدد السرعة القصوى للدراجات من هذه الفئة بما بين 45 و50 كلم/ساعة.

وفيما يتعلق بأداة القياس نفسها، وهي جهاز “السبيدوميتر”، أشار الناجح إلى أن هذا الجهاز يقيس السرعة الدورانية للعجلة الخلفية ويحولها إلى سرعة خطية، مما يجعله أداة ممتازة لتقييم أداء المحرك ومقارنة التعديلات، لكنه لا يعطي السرعة الحقيقية على الطريق بدقة مطلقة، مبرزا أن السرعة التي تظهر قد تختلف قليلا عن السرعة الفعلية بسبب عوامل مثل ضغط الإطار أو انزلاق العجلة، مؤكدا أن البدائل الأكثر دقة هي أنظمة GPS أو الرادار.

أما بخصوص فرضية “السلامة المعاكسة” (Contre-sécurité)، والتي تقول إن تقييد السرعة قد يمنع السائق من التسارع لتفادي خطر ما، فقد نفى الخبير هذه الفرضية بشكل قاطع، مؤكدا أن تقييد السرعة بشكل تقني يقلل من سعة المحرك، وهو أمر معمول به في تجارب دولية كألمانيا، ولا يطرح أي مشكلة في التحكم بالدراجة النارية، سواء في الأحوال العادية أو عند التسارع المفاجئ. بل على العكس، فإن الخطر الحقيقي يكمن في الدراجات التي يتم تعديلها بشكل عشوائي لتتجاوز سرعتها 100 كلم/ساعة دون أن يكون السائق مؤهلا للتحكم بها.

وفي معرض حديثه عن المسؤولية، يرى الناجح أن الدولة تتحمل المسؤولية الأولى عبر سماحها باستيراد وبيع دراجات نارية تتجاوز سرعتها الحد القانوني بحالتها الأصلية. ويرفض تحميل المواطن وحده مسؤولية عدم مطابقة دراجته للمعايير القانونية، مشيراً إلى أن المسؤولية يتحملها المستورد ومنظومة التصديق، أي السلسلة الكاملة التي تبدأ من المنتج وصولاً إلى المواطن المشتري. ودعا إلى تمكين الوكالة الوطنية للسلامة الطرقية (نارسا) بالإمكانات المالية والتقنية والبشرية لتصبح عملية التصديق على المركبات عملاً إدارياً وتقنياً دقيقاً.

وعند مقارنة عقوبة الحجز الفوري للدراجة بالتجارب الدولية، أوضح الناجح أن العقوبات في الدول الأوروبية، مثل ألمانيا، لا تتساهل مع هذه الظاهرة. ففي ألمانيا، لا يتم حجز الدراجة بل التحفظ على لوحة الترقيم، وهو ما يمنع الدراجة من السير. ويستطيع السائق استعادتها بعد تصحيح وضعيتها ودفع غرامة، معتبرا أن هذا الإجراء، سواء كان حجزاً للمركبة أو للوحة الترقيم، يهدف إلى إجبار السائق على الالتزام بالقانون.

وشدد الخبير على أن المشكلة لا تكمن في سرعة الدراجة فقط، بل في سلوكيات السائقين المتهورة وغياب التكوين، مشددا على أن رخصة السياقة ليست مجرد وثيقة، بل هي “تربية على السلامة الطرقية قبل كل شيء”، وتساهم في خلق وعي مشترك بأهمية السياقة الآمنة، داعيا إلى استغلال المهلة الانتقالية الممنوحة لمدة سنة ليس فقط لتسوية وضعية الدراجات، بل لوضع استراتيجية حقيقية ومتكاملة تعالج المشكلة من جذورها، داعيا إلى البدء بحملة تحسيسية واسعة، تبدأ من المدارس الإعدادية والثانوية، مع توفير تكوين إجباري ومكثف لسائقي هذه الدراجات بدعم حكومي وتكلفة ميسرة، بالتزامن مع تشديد المراقبة على المستوردين.

وفي ما يلي نص الحوار كاملا:

ما قراءتك لقرار رئيس الحكومة بخصوص توقيف الحملة ضد الدراجات النارية؟ وهل تعتبره قرارا في محله أم أنه يحتاج إلى سياسة شاملة تراعي السلامة والابعاد الاجتماعية؟

أعتقد أن قرار رئيس الحكومة جاء في محله، وربما تأخر بعض الشيء، أو بالأحرى لم يكن هناك من ضرورة للقيام بحملة ضد الدراجات النارية دون أن تكون مسبوقة بسياسة عمومية مكتملة الجوانب.

نحن نقدر بأن القضية ليست بالبساطة التي يتصورها الناس الذين يتعاطفون مع المواطنين الذين تم حجز دراجاتهم النارية، ولا بالنحو المتعجل وغير المدروس الذي انتهجته الحكومة أو القطاع الوصي. فالتحليل العميق للظاهرة، ينبغي أن يستحضر جملة معطيات مركبة، أولها مخرجات وتوصيات الهيئة الوطنية للسلامة الطرقية التي تتحدث أرقامها عن ارتفاع كبير لحوادث السير التي يتسبب فيها عدد مهم من سائقي هذه الدراجات (تمثل حوادث الدراجات النارية 30 في المائة من مجموع الحوادث المسجلة)، والأمر هنا لا يتعلق بأضرار مادية فقط، وإنما بأرواح وتشوهات وإصابات بليغة، مما يعني أن الاستمرار على نفس الوضعية لم يعد ممكنا.

الجانب الثاني الذي ينبغي استحضاره، هو حصول خلل في جهة ما، سنأتي على تفصيله، ترتب عنه في نهاية المطاف وجود آلاف الدراجات النارية التي تخالف أوضاعها التعريفية حقيقتها التقنية، فالعدد الأكبر من الدراجات النارية التي تساق في الطرق، ولا يحمل سائقوها رخصة السياقة، تتأرجح سرعتها ما بين 100 إلى 140 كيلومتر، وهو وضع خطير، لا يمكن بإزائه القبول باستمرار الوضع، ولا حتى تخصيص سياسات عمومية متشددة لما بعد هذه الفترة الزمنية، وغض الطرف على الوضعية الحالية. ومن جهة ثالثة، ينبغي أن نستحضر كل الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية المرتبطة بهذه القضية، فالدراجات النارية لم تعد فقط وسيلة نقل، بل صارت تمثل جزءا اللوجستيك الاقتصادي لدى فئة مهمة من الشباب، ومن ثمة، فالحل، لا ينبغي القفز على هذه الأبعاد عند بناء أي سياسة حكومية رشيدة. ولذلك، في اعتقادي، أن قرار رئيس الحكومة توقيف الحملة ضد الدراجات النارية، سيكون مهما في حالة واحدة، هي إذا تم إعادة تقييم الموقف، ودراسة الملف في كل ابعاده واتخاذ قرارات مدروسة بشكل جيد، وإبعاد الموضوع عن الهواجس الانتخابية.

من منظور علمي وتقني، هل تحديد سرعة قصوى عند 57 كلم/ساعة (50 كلم/ساعة + هامش خطأ 7 كلم) يعتبر معيارا دقيقا للحكم على أن دراجة نارية من فئة 49cc تم تعديلها؟ ألا يمكن لعوامل مثل وزن السائق، حالة المحرك، وحتى ظروف الاختبار أن تؤثر على النتيجة وتتجاوز هذا الحد حتى في دراجة أصلية؟

هذا سؤال مهم، ومن الضروري أن نرفع الالتباس بشأنه، فالمعيار الدولي وضع فقط معيار درجة سرعة 45 كيلومتر في الساعة، والمغرب حين اختار تحديد الدرجة القصوى 57 كيلومتر في الساعة، فإنه أخذ هامشا أكبر، تصير فيه الاعتبارات الأخرى التي تتدخل وتؤثر في نتيجة السرعة غير مؤثرة، ومن ذلك وزن السائق، أو حالة المحرك، أو حالة العجلات وهل هي في حالة امتلاء أم لا. أعتقد أن هامش 7 في المائة كاف لجعل الجوانب التي تتدخل وتؤثر في تحديد السرعة غير مؤثرة، وهو ما يجعل القانون المغربي، يتماشى مع التشريعات الدولية التي تحدد السرعة القصوى القانونية للدراجات من فئة 49cc (cyclomoteurs) ما بين 45 و50 كلم/ساعة بحكم صنعها.

ما هو تقييمكم لآلية القياس نفسها (speedometre)؟ هل هذه الأجهزة معتمدة (étalonné) وتخضع لمعايير دولية تضمن حياديتها ودقتها؟ وما المخاطر التقنية المحتملة عند اختبار دراجة نارية صغيرة على هذا الجهاز بقوة دفعها القصوى؟

في التعريف التقني، جهاز القياس (speedometre) يستخدم لقياس قدرة المحركات (Power) وعزم الدوران (Torque)، وفي حالة الدراجات النارية يتم تثبيت العجلة الخلفية على أسطوانة دوارة متصلة بحساسات. من خلال المقاومة والسرعة الدورانية، يحسب الجهاز: القدرة الحصانية (HP) عند مختلف عدد الدورات (RPM)، ويحسب أيضا العزم (Torque).

في الواقع، لا يقيس السبيدوميتر سرعة الدراجة النارية على الطريق مباشرة، بل يقيس السرعة الدورانية للعجلة الخلفية، ثم يحولها إلى سرعة خطية اعتمادا على محيط العجلة وبرمجة الجهاز. ومن ثمة، فالسرعة التي تظهر على شاشة السبيدووميتر قد تختلف قليلًا عن السرعة الحقيقية على الطريق، وذلك بسبب ضغط الإطار، أو انزلاق العجلة على البكرات، وقد تتأثر أيضا بحسب دقة معايرة الجهاز.

نأتي الآن لسؤالكم، السبيدوميتر يعطي بشكل جيد قيمة تقريبية أو مقارنة بين تعديلات الدراجة، لكنه ليس أدق أداة لقياس السرعة الحقيقية على الطريق، لأن عوامل مثل مقاومة الهواء، والوزن الكلي، وظروف الطريق غير موجودة في الاختبار الثابت. هناك بدائل أخرى، عالية الدقة مثل نظام GPS، ولذلك يتم استعماله في السباقات لأنه يعطي دقة أكبر من عداد الدراجة أو حتى من السبيدومومتر. وهناك رادار السرعة، وهو جهاز احترافي يعطي قيم دقيقة جدا في قياس السرعة، لكن في حالة مثل النازلة التي نحن بصددها، يعتبر السبيدومتر أداة ممتازة لقياس القدرة والعزم ومقارنة أداء التعديلات، أما السرعة فيُظهرها بدقة مقبولة لأغراض الاختبار، وإن لم تكن مرجعا نهائيا وعالي الدقة بدرجة مثل أجهزة GPS أو الرادار.

هل يمكن أن يؤدي تقييد سرعة الدراجة بشكل مصطنع إلى خلق مخاطر جديدة؟ على سبيل المثال، هل يفقد السائق القدرة على التسارع المفاجئ لتفادي خطر داهم، مما يجعله أكثر عرضة للحوادث في مواقف معينة؟

الوضعية الحالية جد خطيرة، فهناك نوعان من الدراجات النارية التي تثير المشكلة؛ الأول، وهو دراجات نارية تم تغيير وثائقها التعريفية التقنية، بحيث غيرت قدرة المحرك على الورق فقط، فهي على سبيل المثال محددة السرعة في أقل من 50 كيلومتر في الساعة، وهي في الواقع، تسير بسرعة فوق 100. وهناك نوع ثان، تكون سرعته الحقيقية أقل من 50 كيلومتر في الساعة، وتم توسيع سعة محركها لتتجاوز السرعة 100.  هذان النوعان، هما اللذان يتسببان في مشاكل خطيرة تتعلق بالتحكم في الدراجة النارية، أما تقييد السرعة بشكل تقني (بتدخل تقني)، بحيث يتم تقليل سعة المحرك، فهذا لا يطرح أي مشكلة، وهو الأمر المعمول به في كثير من التجارب الدولية، ومنها ألمانيا التي أعيش بها، فقوة المحرك تصير ضعيفة، والسرعة تضعف تبعا لذلك، وهذا لا يطرح أي مشكلة في التحكم في الدراجة النارية، سواء في الأحوال العادية أم عند التسارع المفاجئ لتفادي الخطر.

حملة المراقبة استندت إلى مسطرة صادرة عن “نارسا”. هل يمكن لمسطرة إدارية داخلية أن تكون أساسا لفرض عقوبة قاسية كالحجز الفوري للمركبة، أم أن الأمر يتطلب نصا تشريعيا واضحا ومنشورا في الجريدة الرسمية يحدد المخالفة وعقوبتها؟

لقد أحدثت الوكالة الوطنية للسلامة الطرقية سنة 2020 لتكون أداة بيد الحكومة لوضع استراتيجيات السلامة الطرقية، بما يعني ذلك القيام بالدراسات، وإعداد تقارير سنوية عن حالة السلامة الطرقية ببلادنا، وإنجاز المخططات والمشاريع المتعلقة بتحسين السلامة الطرقية في البلاد، والقيام بكل ما هو علمي وبحثي وتكويني، فضلا عن سلطة الترخيص لعدد من المؤسسات المعنية بتعليم السياقة والتربية على السلامة الطرقية والتصديق على المركبات التي تدخل للمغرب.

لا أريد في الواقع، أن أسرد مهام هذه الوكالة، لكن من الواضح في الظهير الشريف المتعلق بتنفيذ القانون المتعلق بإحداث الوكالة الوطنية للسلامة الطرقية أن هناك وضوحا تفصيليا في مهام الوكالة، فمن صلاحياتها المباشرة أن تقدم توصياتها للحكومة للتحرك من أجل وضع حد للظواهر الخطيرة التي تهدد السلامة الطرقية مثل التي نحن بصددها، أما كيف تصرفت الحكومة، وهل احترمت التراتيب التشريعية أم لا، فهذا سؤال قانوني، أو ربما هو أليق بأن يجيب عنه السياسي.

ما يهمني كخبير في السلامة الطرقية، أن أتحدث فيما يتصل بالسلامة الطرقية، وعن السياسات التي قد تؤثر سلبا عليها، حتى ولو كانت في الأصل وضعت من أجل الجواب عن مخاطر تهددها. وضمن هذه الزاوية، أرى أنه كان على الحكومة، أن تأخذ وقتها لتضع سياسة رشيدة لتنزيل توصيات الوكالة، بما يجعلنا في نهاية المطاف نتجنب حالة العجلة والارتجال في معالجة ظاهرة خطيرة، تحتاج منا تفكيرا عميقا، وترتيبا ليس فقط على المستوى التشريعي والقانوني، ولكن أيضا على مستوى خطوات السياسة العمومية، ومراعاة التدرج والتوعية والتحسيس وفهم الظاهرة في أبعادها المختلفة، لأنه في نهاية المطاف، السياسات العمومية توضع في سياق مجتمعي، ويراد لها أن تنجح ضمن تعبئة مجتمعية، ولذلك من المستحيل على أي نص تشريعي أو سياسة عمومية أن تنجح في ظل ممانعة مجتمعية قوية.

ألا تعتبرون أن الدولة، عبر سماحها باستيراد وبيع دراجات نارية تتجاوز سرعتها بحالتها الأصلية الحد القانوني، تتحمل المسؤولية الأولى؟ كيف يمكن معاقبة المواطن الذي اشترى مركبة بشكل قانوني من السوق، ودفع رسومها، ووثق في تراخيص الأجهزة الرقابية؟

الأنسب هنا أن نتحدث عن الحكومة، فهي المسؤولة عن إنتاج السياسات العمومية، وهي التي يفترض فيها أن تتدخل لمعالجة أي خلل تراه معطلا للسلامة الطرقية. التشخيص الذي تقدمت به صحيح، فالدراجات النارية التي تستورد لا تدخل إلى المغرب من غير تصديق. ومن ثمة لا يمكن أن نقول للمواطن اصعد إلى شجرة التين، ثم نقول له اهبط، لماذا صعت إليها كما يقول المثل المغربي.

البعض سارع إلى الدخول في معركة ربما مسيسة ضد الوكالة الوطنية للسلامة الطرقية، بزعم أنها مسؤولة قانونية عن التصديق على المركبات والدراجات النارية، وهذا ظاهريا صحيح، لكن، السؤال هو: هل وضعت الحكومة لهذه الوكالة التي أنشئت سنة 2020 الإمكانات الضرورية والمالية والتقنية والبشرية لتقوم بالمهام المتعددة التي أنيطت بها، وهل مكنت الحكومة هذه المؤسسة العمومية الناشئة من معدات ومقار تقنية تناسب مهامها لتقوم باختبار المركبات، لتتثبت من نوافقها مع أوراقها التقنية الثبوتية؟

اليوم أصبح للمستورد سلطة كبيرة، ويمكنه أن يتفاوض مع المنتج في كل شيء، حتى في تغيير الجودة في المركبة بين بلد وبلد، فتتفاوت درجة جودة العجلات والفرامل وحتى الإطار بين دول أوربا ودول العالم الثالث، وأحيانا كثيرة يكون ذلك بطلب من المستورد، إما لتخفيض الكلفة بما يناسب السوق الداخلية، أو بما يزيد من هامش الأرباح، واليوم أصبح كثير من المنتجين في خدمة المستوردين، ويمكن أن يقوموا بأشياء تخالف القانون. ولذلك، لم يعد ممكنا أن يكتفى في التصديق بمراقبة الأوراق التعريفية للمركبة أو الدراجة، بل وجب توفير الإمكانات المالية والبشرية والتقنية للوكالة لتقوم بدورها، وهذا ما سيسمح في السنوات القادمة بحل المشكلة، وسد باب في وجه التحايل والفساد الذي يهدد السلامة الطرقية.

الحجز الفوري للدراجة يعتبر عقوبة قاسية جدا لها تبعات اجتماعية واقتصادية وخيمة على أصحابها. في خبرتكم الدولية، هل توجد سابقة لمثل هذه العقوبة الصارمة لمجرد تجاوز السرعة القصوى التصميمية للمركبة؟ أليست هناك عقوبات بديلة أكثر تدرجا وإنصافا؟

أعتقد أن قرار رئيس الحكومة أنهى الآن المشكلة، ولم يعد هناك من ضرورة لتقييم عقوبة الحجز على الدراجة. في التجارب الأوربية لا توجد رأفة في التعاطي مع ظاهرة تجاوز السرعة القصوى التصميمية للمركبة، ففي ألمانيا على سبيل المثال مشكلة التصديق غير مطروحة بالمطلق، وفي حال التدخل التقني لتغيير سرعة المركبة أو الدراجة، وثبوت ذلك بالفحص القتني أو عبر الشرطة، لا يتم الحجز على المركبة، بل يتم التحفظ على لوحة الترقيم، وأنت تعرف أن أي مركبة لا تستطيع الجولان من غير لوحة ترقيم. وإذا ما أراد السائق استرجاعها، يتحمل مسؤولية إرجاع المركبة إلى طبيعتها الأصلية، ويدلي بشهادة من الفحص التقني تؤكد ذلك، ويدفع غرامة في مقابل استعادة لوحة الترقيم.

وفي اعتقادي، فالأمر لا يختلف في كل التجارب الدولية، بما في ذلك المغرب، فسواء تم ذلك بالحجز على المركبة أو على لوحة الترقيم، فإن استعادة السيارة أو استعادة لوحة الترقيم، لا يمكن أن يتم من غير تصحيح الوضعية ودفع الغرامة، بما يؤكد أن هذه السيارة أو الدراجة لن تكون سببا في الإضرار بالسلامة الطرقية.

تبرر السلطات الإجراء بارتفاع حوادث الدراجات النارية. هل المشكلة الحقيقية تكمن في سرعة الدراجة القصوى، أم في سلوكيات السائقين المتهورة (عدم ارتداء الخوذة، عدم احترام الأسبقية، السياقة الاستعراضية) وغياب التكوين؟ هل يمكن القول إننا نركز على العرض ونتجاهل المرض؟

لا يمكن الفصل بين الظاهرتين، فالتهور لا يكون مؤثرا بدرجة خطيرة إلا إن كانت سرعة الدراجة تساعد على بلوغ أقصى درجة منه، فالدراجة النارية التي تكون سرعتها لا تتجاوز المعايير الدولية، لا تكون مساعدة للسائق المتهور، ولذلك فاشتراط رخصة السياقة في الدرجات النارية التي تتجاوز سرعتها 57 كيلومتر في الساعة، يقلل من كثير من الأضرار، فرخصة السياقة، تعني التعليم والتكوين، وتعني التأكد من هضم السائق للقوانين المؤطرة، وتعني تحمله مسؤولية العقوبات التي تترتب عن تجاوز القانون، بما في ذلك حجز رخصة السياقة نفسها.

وإذا كان البعض يعتقد بأن رخصة السياقة تعني فقط المهارات المتعلقة بالسياقة، فهو لا يفهم حقيقة هذه الرخصة وهدفها والرسالة التي تحملها، فهي تعني التربية على السلامة الطرقية قبل كل شيء، وتعني التكوين، وتعني خلق وعي مشترك بأهمية السياقة الآمنة في الطريق. أما العقوبات التي يتضمنها القانون، فهي تؤدي وظيفة زجرية، والتربية على السلامة الطرقية هي الأساس، ولذلك، وضعت في كثير من برامج التعليم المدرسي على رأس الأولويات، وتدرس في المستويات الأساسية من التعليم، وتمنح رخصة سياقة تربوية للأطفال ضمن ورشات نظري تدريبية تقام في ساحة المدارس كما هو الشأن في ألمانيا وبريطانيا وغيرها من الدول الأوربية

كيف يتم التعامل مع فئة الدراجات النارية الصغيرة (Moped/Cyclomoteur) في ألمانيا؟ هل تخضع لمثل هذا الاختبار الصارم للسرعة القصوى، أم أن الرقابة تركز على جوانب أخرى كالتأمين، الحالة الميكانيكية، وسلوك السائق على الطريق؟

ملخص التجربة الألمانية، أن هناك فئة من الدراجات النارية التي لا تتجاوز 50 كيلومتر في الساعة لا تتطلب سوى شهادة بعد أخذ دروس نظرية وعملية فضلا عن شهادة الإسعافات  الأولية، أما ما فوق سرعة 50 كيلومتر في الساعة، فتعدد الرخص إلى مستويات، كما أن الحد الأدنى في السن المخول لسياقة هذه الفئة من الدراجات النارية، يرتفع ليصل إلى 21 سنة، وسواء تعلق الأمر برخصة A1  أو A2، فإن رخصة السياقة تشترط إضافة إلى الدروس النظرية والعملية التي تزيد في الوعاء الزمني عن الفئة السابقة، الخضوع لامتحان نظري وعملي والإسعافات الأولية.

قررت الحكومة منح مهلة انتقالية لمدة سنة. من وجهة نظركم، كيف يجب استغلال هذه الفترة؟ هل يجب أن تقتصر على “تسوية وضعية” الدراجات، أم يجب أن تكون فرصة لمراجعة شاملة للقانون، ومساءلة المستوردين، ووضع استراتيجية حقيقية لسلامة هذه الفئة من مستعملي الطريق؟

أعتقد أن هذه المهلة كان ينبغي البدء بها قبل مباشرة الحملة ضد الدراجات النارية. ولذلك من المفيد استدراك الأمر ليس فقط لامتصاص تداعيات الحملة، ولكن للتفكير بجدية فيما يمكن القيام به لإشراك سائق هذه الدراجات في صلب الاستراتيجية الوطنية للسلامة الطرقية.

من المهم أولا أن يكون لدينا تشخيص صحيح للمعضلة لكي نتوجه رأسا إلى تعديل ما يكن تعديله في المنظومة. الأمر يتطلب أن نبدأ أولا بمعالجة الاختلالات التي تسبق وصول الدراجة النارية إلى المواطن المغربي، إذ لا يمكن أن نحمل هذا المواطن وحده مسؤولية عدم مطابقة الدراجات التي يشتريها للمعايير القانونية، فالمسؤولية يتحملها المستورد ومنظومة التصديق، أي السلسة الذي تنطلق من المنتج وقبل أن تصل إلى المواطن المشتري. وهذا يقتضي وضع منظومة تشريعية صارمة في وجه كل أساليب الاحتيال، كما يتطلب تمكين الوكالة الوطنية للسلامة الطرقية من الإمكانات حتى تصير عملية التصديق عملا إداريا وتقنيا في الآن ذاته. وفي حالة حصول تغيير في سعة المحرك أو في خصائصه التقنية بعد التصديق له، فدور مراكز الفحص التقني وسلطة المراقبة إيقاع عقوبات صارمة، سواء بحجز الدراجة أو سحب رخصة السياقة أو ما يقرره المشرع لردع هذه الظاهرة الخطيرة.

لكن، لا ينبغي أن ننسى أن هذه القضية هي قضية تربوية وتكوينية بامتياز، وأنه لا ينبغي أن نضع البيض كله في سلة القانون والعقوبات الزجرية، فمن مسؤولية الحكومة في سياساتها العمومية أن تقوم بدورها في إشراك المواطن في صلب منظومة السلامة الطرقية، وأن تستعين بالإمكانات التربوية والتعليمية والإعلامية والتحسيسية التي تمتلكها وزاراتها أو مؤسساتها العمومية أو المؤسسات الي تخضع لدفاتر تحملات تضعها الحكومة مثل وسائل الإعلام العمومية والخاصة أيضا.

مزج هذه الأبعاد كلها في سياسة عمومية مندمجة هو ما يتطلب التفكير فيه بجدية وعمق في هذه المرحلة الانتقالية، حتى نتجنب الإصلاحات التي تخلق الصدمة المجتمعية وتنتج حساسية مقاومة لها.

لو كنتم مستشارا لوزير النقل اليوم، ما هو الإجراء الأول والفوري الذي كنتم ستوصون به لتصحيح المسار، واستعادة الثقة، والبدء في معالجة المشكلة من جذورها بدل الاكتفاء بحلول ترقيعية تثير غضب المواطنين؟

لا ينبغي أن نرمي الكرة بين يدي ديوان الوزير ولا مستشاره، فالقضية تتداخل فيها مؤسسات متعددة، ويتحمل مسؤوليتها أكثر من قطاع. وظني، أن السياسات العمومية التي يفترض أن تحدث صدمة مجتمعية، ينبغي أن تكون تحت دائرة مراقبة رئاسة الحكومة، وليس فقط وزير النقل، فأنت ترى أن القضية بدأت بمجرد حملة، وتحولت في نهاية الأمر إلى قرار من رئيس الحكومة، لأن تداعياتها أصبحت تمس الرأي العام، وفي بعض البلدان، مثل هذه القضايا تخلق أزمات سياسية.

أعتقد أن جوهر المشكلة أن نحدد الفئة المستهدفة بالسياسة المعنية، فالأمر يتعلق بنوع من سائقي الدراجات النارية التي تتجاوز سرعتها 57 كيلومتر في الساعة، ولا يهم سائقي الدراجات النارية ما دونها. والأمر لا يهم فئة صغيرة محدودة العدد، وإنما يهم آلاف السائقين، الذين يستعملون دراجاتهم لأغراض تتجاوز النقل، لما هو مرتبط بالحياة الاقتصادية. ثم إن الوكالة الوطنية للسلامة الطرقية تتحدث عن أرقام مفجعة من ضحايا تكون فيه هذه الدراجات سببا في الحوادث.

ولذلك وجب أولا أن نعطي فترة انتقالية لا تقل عن سنة، يكون العمل الأساسي فيها هو تحسيس هؤلاء السائقين بضرورة الحصول على رخصة سياقة، وأن الأمر، لا يقتصر فقط على أداء واجب التنبر أو واجب مدارس تعليم السياقة، وإنما يتعلق بتكوين مهم وإجباري يخضع له هؤلاء السائقون لمدة لا تقل عن أسبوع بوتيرة مكثفة، وهو ما يتطلب أن تقوم الوكالة الوطنية للسلامة الطرقية بإعداد مخطط مدروس لتأطير هذه العملية بشراكة مع مؤسسات التكوين والتعليم، وأن تكون البداية بدعم حكومي، مع كلفة مالية ميسرة، تضمن الانخراط الواسع في العملية.

كما يتطلب الأمر من جهة مقابلة إنهاء حالة الاسترخاء في تسهيل دخول مركبات لا تحترم المعايير القانونية، ووضع حد للفساد والاحتيال الذي يمارس بتواطؤ بين المنتج والمستورد من خلال تمكين الحكومة الوكالة من الإمكانات المالية والبشرية والتقنية التي تمكن من المزاوجة بين البعد الإداري وبين المراقبة التقنية الدقيقة في عملية التصديق.

من الممكن وضع درجات لرخص سياقة الدراجات النارية بحسب سرعتها، بالشكل الذي تتمايز فيه شروط الحصول على الرخصة، وأيضا ما يترتب عن المخالفات من عقوبات، لكن ما هو أساسي وضروري ويحظى بالأولوية هو عملية تحسيسية واسعة، تبدأ من المدارس الإعدادية والثانوية والجامعية، مع برامج حوارية مهمة تشرك الخبراء والمسؤولين والقانونيين والمهنيين والمواطنين العاديين في نقاش حر، يساهم في الرفع من درجات الوعي بأهمية سد هذه الثغرة وإقحام سائق هذه الدراجات في صلب منظومة السلامة الطرقية. فإذا انتهت هذه المهلة، تبدأ مراقبة صارمة للدراجات النارية، تدخل إلى وعي المواطن أن عهد التساهل قد انتهى، وأن على الجميع الانضباط للقانون.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • زكريا PI
    منذ 4 ساعات

    الأستاذ الناجح واحد من الكفاءات المغربية اللي كنفتاخرو بها، عندو خبرة واسعة فمجال السلامة الطرقية و الفحص التقني، وكيقدم قيمة مضافة حقيقية فهاد الميدان الحيوي. بكل صدق، خدمت معاه واستفدت بزاف من التجربة ديالو، بحيث كيعرف كيفاش يوصل المعلومة بطريقة واضحة، عملية، ومبنية على أسس علمية وتجارب ميدانية. بحال هاد الكفاءات خاص الحكومة تستغلها وتفتح ليها المجال باش تساهم فالنهوض بالوطن، بحال ما كيديرو الدول المتقدمة اللي كيبنيو على الكفاءات والطاقات البشرية. صمعة الأستاذ الناجح نقية، وسمعته طيبة بين زملاؤه وطلبته، وكيستاهل كل التقدير .

  • مرافعة مواطن
    منذ 5 ساعات

    بدل : "الدراجة النارية " الكلمة العربية الصحيحة : "الطفطافة" جمعها : "طفطافات"