وجهة نظر

جنوب الجزائر تحت المجهر وشمال مالي بات ساحة حرب مفتوحة

تصاعدت حدة التوتر في منطقة الساحل الإفريقي، وبشكل خاص في شمال مالي قرب الحدود الجزائرية، حيث باتت التطورات الميدانية هناك تُشكّل تهديدا مباشرا للأمن القومي الجزائري. فمع اتساع رقعة سيطرة جبهة تحرير أزواد، وما يصاحبها من تحركات عسكرية وتحالفات مريبة، تبرز الجزائر كأول المتأثرين بما يجري قرب حدودها الجنوبية.

فلم يعد الخطر مقتصرا على زعزعة استقرار مالي، بل تجاوز ذلك إلى إمكانية تسلل العدوى إلى الداخل الجزائري، خصوصا في ظل الروابط القبلية والعرقية بين الطوارق في الجزائر ونظرائهم في أزواد وكذا استغلال قوى غربية لهذا الوضع لخدمة أجندتها في المنطقة، ومن أبرزهم فرنسا، التي فقدت من جهة نفوذها التام في مالي والساحل عامة ومن جهة أخرى دخلت في صراع سياسي ودبلوماسي حاد مع الجزائر.

وحسب تقرير نشرته صحيفة “DIA” الجزائرية دجنبر الفارط، فقد اتهم النائب المالي عليو تونكارا فرنسا بالوقوف خلف تأسيس تحالف متمرد جديد في الشمال، يشمل “جبهة تحرير أزواد” وحركات جهادية مسلحة. واعتبر أن باريس تلعب دورا أساسيا في تأجيج الصراع من أجل الحفاظ على نفوذها الاستراتيجي في منطقة الساحل. هذه الاتهامات تتقاطع مع ما كانت الجزائر قد عبّرت عنه مرارا، من وجود تدخلات فرنسية مباشرة تسعى لزعزعة استقرار الجنوب الجزائري من خلال تغذية النزعات الانفصالية لدى الطوارق المحليين.

ويزيد من تعقيد الموقف، ما كشفته صحيفة “Le Figaro” الفرنسية، حول توقيف دبلوماسي فرنسي في مالي منتصف أوت الماضي، متهم بالارتباط بجهاز الاستخبارات الفرنسي (DGSE) والعمل لصالح مشروع فرنسي سري يستهدف تقويض الأمن في البلاد. الحادثة، التي أثارت جدلا واسعا، أكدت، من وجهة نظر السلطات المالية، وجود “مخطط خارجي لزعزعة استقرار البلاد”، وهي الاتهامات نفسها التي سبق أن أطلقتها الجزائر ديسمبر الفارط، حين استدعت سفير فرنسا بسبب أنشطة عدائية تمس بالسيادة الوطنية تورطت فيها المخابرات الفرنسية.

في سياق موازٍ، نقلت قناة الجزيرة في تقرير نشرته في جوان 2025، أن مركز “كل-أكال” الأزوادي، بالتعاون مع منظمة “إيموهاغ” الدولية، تقدم بشكوى رسمية إلى المحكمة الجنائية الدولية، يتهم فيها الجيش المالي بارتكاب “جرائم ضد الإنسانية” في شمال البلاد. اللافت في هذا التحرك ليس فقط مضمونه، بل أيضا توقيته ودعمه غير المعلن من فرنسا، حسب مصادر إعلامية، الأمر الذي يُفهم منه محاولة تدويل القضية ودفع نحو شرعنة مشروع الانفصال في أزواد.

من جهة أخرى، يُحذر مراقبون من أن النجاحات العسكرية التي تحققها جبهة تحرير أزواد على الأرض، قد تُغري الطوارق في الجنوب الجزائري بتكرار السيناريو المالي. هذه الفرضية ليست مجرد احتمال نظري، بل تستند إلى واقع عرقي واجتماعي قائم، حيث توجد روابط دم ومصالح ومجتمعات مشتركة بين الطوارق في الجزائر وأولئك الموجودين في إقليم أزواد.

وفي هذا السياق، سبق أن نشرت صحيفة “Assahifa” تقريرا مفصلا عن “حركة تحرير جنوب الجزائر”، وهي جماعة مسلحة تدعي الدفاع عن حقوق الطوارق، وتزعم وجود تهميش اقتصادي وثقافي لهم. وبحسب التقرير، فإن هذه الحركة تُعتبر امتدادا فكريا لجبهة أزواد، وتحظى بدعم غير معلن من جهات خارجية، بعضها ينشط تحت غطاء المنظمات الحقوقية الدولية. وسبق للجزائر أن حذّرت من أدوار فرنسية مشبوهة في الجنوب، خاصة في ما يتعلّق بتحريض الطوارق الجزائريين على الانفصال وتغذية النزعة القبلية في مناطق حساسة مثل تمنراست وإليزي.

ما يرفع من مستوى القلق هو ما نشرته إذاعة فرنسا الدولية “RFI”، حول نية جبهة تحرير أزواد عقد تحالفات ميدانية مع جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، أحد أخطر التنظيمات الجهادية في الساحل. ووفق التقرير، فإن هذا التحالف “الاستراتيجي” يسعى لتنفيذ عمليات عسكرية مشتركة ضد الجيش المالي، ما يعني تحويل شمال مالي إلى ساحة حرب مفتوحة تهدد بالتمدد نحو الدول المجاورة، وعلى رأسها الجزائر.

أما جبهة تحرير أزواد نفسها، فهي تواصل بعث رسائل مزدوجة. من جهة، تؤكد استعدادها للحوار، كما جاء على لسان رئيسها بلال أغ الشريف الذي صرح يونيو الماضي بأن “الحل النهائي ممكن إذا توفرت إرادة سياسية حقيقية من الأطراف المعنية، وعلى رأسها الحكومة المالية”، مشددا على ضرورة “الاعتراف بالمظالم التاريخية التي تعرض لها شعب أزواد”. ومن جهة أخرى، تواصل الجبهة توسعها الميداني، وتستثمر في الدعم الدولي لمشروعها.

في خضم هذا المشهد المعقد، يظهر أن الجزائر مطالبة أكثر من أي وقت مضى بتفعيل أدواتها الدبلوماسية والأمنية. فكما نجحت في عام 2015 في قيادة وساطة أدت إلى توقيع اتفاق سلام بين حكومة مالي والمتمردين، يمكنها اليوم أن تعيد الدور ذاته، لكن ضمن مقاربة أشمل.

إن الجزائر تواجه تهديدا مركبا: صراع مسلح على حدودها، ومحاولات خارجية لتوظيف المكون الطوارقي كأداة لخلق بؤر تمرد داخلي، لذلك فإن التعامل مع هذا التحدي لا يحتمل التردد، بل يتطلب تحركا دبلوماسيا ذكيا لإبطال مفعول أي مشروع انفصالي قد يُشعل فتيل الفوضى في المنطقة برمتها.

* كاتب وباحث في شؤون الشرق الأوسط والعلاقات الدولية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *