هذا ما سرقته حرب الإبادة من طفولة غزة

في عالمٍ كان يجب أنْ يكون ملعبًا لأحلامها، كانت تعيش “يُمنى” ذات الثلاث سنوات، طفلةٌ كأنها البدر في تمامه. بعيونٍ بنيةٍ كحَبَّات البُنِّ، وشعرٍ أسود كليلٍ هادئ، وغمازتين كانتا تُزهرَان على خديها مع كلِّ ضحكة.
ثم أتت الحرب كوحشٍ كاسر لا يفرِّق بين جنديٍّ ودمية، جاء ليغتال البراءة؛ ففي لحظةٍ واحدة، تحطمت أحلام يمنى على عتبات بيتها، وتمزقت دميتها المفضلة إلى أشلاء.
حين فررنا من بيتنا تحت لهيب القصف، وأصوات الموت تطاردنا في كل زقاق، كان صوت يمنى يرتفع كصرخة احتجاجٍ: “بدي أروح على البيت! بدي لعبتي!”. لم تكن تفهم معنى الحرب، كل ما كانت تعرفه أنّ النوم مستحيلٌ دون أنْ تحتضن دميتها.
كنا نكذب عليها، ونكذب على أنفسنا، نهمس لها بوعود العودة التي تذوب في الهواء كالدخان. لكنّ الأمل تلاشى حين وصل إلينا خبر بيتنا؛ لم يعد بيتًا، بل كومة من حجارة وحزن.
وهكذا، بدأت رحلة النزوح نحو الجنوب، نحو حياةٍ لا تشبه الحياة: “حياة الخيام”، كانت رائحة الهواء ثقيلة، مزيجا من البارود والغبار والخوف، وكل خطوة كانت مغروسة في المجهول.
مع مرور الأيام، لم تعد يُمنى تطلب العودة إلى البيت؛ في الحقيقة، لم تعد تطلب أي شيء. صمتت صمتًا مريعًا، كأن شفتيها أغلق عليهما بقفل من الصدمة.
تلك الطفلة التي كانت فراشةً ناطقة، تحولت إلى شبح صغير يتحدث بلغة الإشارات الموجعة. في خضمِّ ألم الفقد وصعوبة البقاء، لم ننتبه في البداية. ظننا أنه مجرد دلال طفولي، غيمة صيفٍ ستعبر؛ لكنها لم تكن غيمة، بل كانت شتاءً قارسًا تجمّدت فيه كلماتها.
لم يكسر جدار صمتها إلا صراخٌ حاد، صراخٌ يمزق الروح، ينفجر منها كلما اقترب منها غريب أو حاول أحدٌ مضايقتها. يا إلهي، كيف يُختزل عالمٌ من الضحكات والكلام في صرخة صامتة؟
وكأن صمتها لم يكن كافيًا، بدأت الحرب تنهش جسدها الصغير، حيث الماء شحيح والمرض سيد المكان، تكالبت عليها الأمراض؛ من النزلات المعوية إلى التهاب الكبد الوبائي الذي صبغ بياض عينيها بصفرةٍ شاحبة، إلى التهابات الصدر التي كانت تخنق أنفاسها، لكنّ العدو الأشرس كان طفيليًا خبيثًا استوطن أحشاءها لتسعة أشهرٍ متواصلة، “الأميبا المتحوصلة”؛ إنه مرضٌ لعين سرق من جسدها القوة عبر إسهالٍ مزمن وألمٍ لا يهدأ، هذا المرض علاجه بسيط لكنه لم يكن متوفرًا في جنوب القطاع بسبب منع الاحتلال دخول الأدوية.
لم تكن يمنى وحدها من يعاني، فمرضها كان وجعًا لنا جميعًا. أفقدها القدرة على التحكم بنفسها، فلجأنا إلى الحفاظات التي لم تكن تمنع التسرب. فأصبحت أيامي طقسًا من غسل ملابسها بمياهٍ شحيحة ننقلها من بعيد، كنت أغسل ملابسها كل يوم، وأصابعي تتجمد من البرد، أغسلها وأنا أبكي، وفي قلبي مزيج مرير من الامتنان لأنها ما زالت هنا لتتسخ ملابسها، والحسرة لأنّ براءة ابنتي قد تلوثت بوحل هذه الحرب، والمصيبة الأدهى لم تكن هناك ملابس بديلة، ولا دفءٌ يأويها، وحتى شعرها الأسود الجميل بدأ يتساقط، تاركًا فراغاتٍ في رأسها كخرائط الحزن في قلبي.
كنت أراقبها وقلبي يتفطر، أرى طفلتي “تذوب” أمامي وأنا عاجزة، مكتوفة الأيدي، لا أملك إلا حضنًا يرتجف ودعاءً خافتًا.
لكننا لم نستسلم. بحثنا عن دوائها “بسراج وفتيلة”، حتى أتى الفرج على هيئة صيدلاني أصيل المعدن، هرّب لنا علبة الدواء من شمال القطاع المعزول، وبفضل الله، بدأ جسدها يتعافى، لكنّ روحها بقيت حبيسة قلعة الصمت.
كان التحدي الأكبر بعد تعافيها هو إخراجها من تلك الشرنقة، كنت أحملها يوميًا وأطوف بها في شوارع الجنوب المكتظة بالنازحين، أتحدث إليها وأغني لها، نحاول اختراق جدار الصمت بحبنا.
وببطء، بدأت تستجيب، كنقطة ضوءٍ في عتمة نفق، نطقت: “بابا”، “ماما”. كانت تولد من جديد في عامها الرابع، تتعلم الكلام من الصفر.
واليوم، وهي في الخامسة، ما زالت كلماتها تتعثر، لا تواكب عمرها، إنها بلا شك الآثار الدامية لحرب الإبادة، لقد كانت ندوبًا حُفرت في نفس كل طفلٍ لم يكن له ذنبٌ سوى أنه وُلد فلسطينيًا.
ذات يوم، كنت أعلمها الحروف: “دال… دار”، وأريتها صورة بيت جميل.
نظرت إليّ بعينيها الواسعتين وقالت ببراءة: “يعني خيمة”.
صعقني جوابها. طفلتي لا تعرف معنى البيت، ذاكرتها الأولى هي الخيمة، أخبرتها أنّ للدار بابًا وحيطانًا وشباكًا.
فسألتني بدهشة: “شو يعني حيط؟ شو يعني شباك؟”.
عجز لساني عن وصف عالمٍ لم تره عيناها قط، كيف أشرح لها شيئًا لم تره عيناها قط؟ كيف أصف لها شعور الأمان بين أربعة جدران؟
عندما عدنا إلى غزة بعد الهدنة، وزرنا منزل عمها الذي نجا من القصف، وقفت يمنى مذهولة؛ أمسكت بالباب وظلت تفتحه وتغلقه لمدة طويلة. كانت تلمس الجدار وتهمس: “هذه حيطة”، وتشير إلى النافذة وتقول: “هذا شباك”، كأنها تكتشف أعجوبة من عجائب الدنيا.
هذه هي قصة يمنى. طفلة لم يجرحها شظايا صاروخ، لكنّ صواريخ الاحتلال جرحت قلبها، حطمت نفسها، واستبدلت أمنها بالخوف، وشبعها بالجوع.
يوم أنجبتها، رسمتُ لها مستقبلًا مليئًا بالضحكات والنجاح. بنيتُ لها قصورًا من الأحلام؛ لكنّ الاحتلال نسف كل ذلك، تمامًا كما نسف بيتنا، وحياتنا، وذاكرتنا؛ لم يقتلنا، لكنه يحاول قتل الحياة فينا، ولكننا لن نستسلم حتى آخر نفس!
*مديرة أكاديمية الميسري للبحوث والدراسات في قطاع غزة
اترك تعليقاً