أما بعد

أما بعد.. خرجة أخنوش الإعلامية بين الضرورة التواصلية والتسخينات الانتخابية

في خرجة إعلامية لافتة، اختار رئيس الحكومة عزيز أخنوش أن يخاطب الرأي العام المغربي عبر القناتين العموميتين، في حوار تميز بطابعه السياسي المباشر، وتوقيته المحسوب بدقة.

ظهور أثار موجة من التفاعل، تراوحت بين من اعتبره ضرورة تواصلية تندرج ضمن مهام رجل دولة مسؤول، وبين من رآه خطوة استباقية ذات خلفية انتخابية مبطنة، في سياق سياسي بدأ يسخن تدريجيا مع اقتراب نهاية الولاية التشريعية.

بعيدا عن الاتهامات والمزايدات، تبدو قراءة هذا الظهور الإعلامي ممكنة من زاويتين متكاملتين. فمن جهة، من الطبيعي أن يمر رئيس الحكومة عبر الإعلام العمومي لتقديم حصيلة وتوضيح مواقف والرد على تساؤلات تشغل الرأي العام. فالديمقراطية لا تكتمل دون تواصل، والمحاسبة لا تُبنى من فراغ. ومن جهة ثانية، لا يمكن تجاهل دقة التوقيت، وسخونة بعض الملفات المطروحة، والرمزية التي قد يكتسيها أي خطاب رسمي صادر عن رأس السلطة التنفيذية في هذه المرحلة.

مرور رئيس الحكومة عزيز أخنوش على القناتين العموميتين يدخل في صميم المسؤولية التواصلية الملقاة على عاتق رئيس الجهاز التنفيذي، خصوصا في ظل ظرفية اقتصادية واجتماعية دقيقة تتطلب التوضيح وشرح السياسات العمومية للمواطنين.( الدخول السياسي والبرلماني الجديد) وهو الخروج الذي يكسر جدار الصمت الذي طبع المشهد منذ اختتام الدورة الربيعية للبرلمان.

كما يأتي هذه الخروج الإعلامي، في سياق تواصلي يدخل ضمن الصلاحيات المخولة له دستوريا ومؤسساتيا، باعتباره رئيسا للسلطة التنفيذية، ومسؤولا عن تقديم الحصيلة المرحلية وتفسير توجهات العمل الحكومي للرأي العام. ورغم بعض الأصوات الحزبية التي اعتبرت هذا الظهور “حملة انتخابية سابقة لأوانها”، فإن هذا التوصيف فيه قدر من المبالغة والمزايدة السياسية، خاصة وأن رئيس الحكومة لم يُعلن عن ترشيح أو حملة، بل التزم بخطاب حكومي قائم على تقديم المعطيات والرد على الانتقادات.

من المهم التمييز بين التواصل الحكومي المشروع والدعاية الانتخابية التي تُنظم قانونيا من طرف الهيئات المختصة، خصوصا المجلس الأعلى للاتصال السمعي البصري. فالمرور الإعلامي لرئيس الحكومة لا يندرج ضمن الفترات المحكومة بقرار المجلس رقم 33.16 المؤطر للفترة ما قبل الحملات الانتخابية، حيث تُقسم مدة البث بناء على التمثيلية البرلمانية للأحزاب. وعليه، فإن استغلال بعض الفرق السياسية لهذا الظهور من أجل خلق جدل انتخابي سابق لأوانه، يبدو أقرب إلى مناورات تمهيدية غير مؤسسة قانونيا.

الرسائل التي حملها ظهور أخنوش كانت سياسية أكثر منها انتخابية، من تأكيده على الاستمرار في أداء المهام الحكومية إلى آخر لحظة، إلى الإشادة بدور وزارة الداخلية في الإعداد للانتخابات، مرورا بتوجيهه رسائل واضحة لحلفائه وللمعارضة.

عزيز أخنوش، في حواره، لم يقدم نفسه كزعيم حزبي يسعى إلى التموقع، بل كمسؤول حكومي حريص على تأكيد استمرارية الدولة، وإرسال إشارات متعددة الاتجاهات: أولها تمسكه بموقعه ودوره إلى آخر لحظة من ولايته، وثانيها دعوته لشركائه في الأغلبية إلى الحفاظ على منسوب الانسجام الحكومي، وثالثها استعداده للتفاعل مع النقد البناء دون انجرار إلى معارك “البوز” السياسي، الذي يراه عقيما ومُستهلكا.

الرسائل الأخرى لم تكن أقل وضوحا: ثقته الكاملة في وزارة الداخلية لتدبير الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، ارتياحه لمسار الحكومة رغم التحديات، وتأكيده أن الانتخابات ليست أولوية في الوقت الراهن، بل التركيز منصبّ على استكمال الأوراش والإصلاحات.

غير أن هذا الظهور، رغم أهميته، يسلط الضوء مجددا على الفجوة بين لغة الإنجازات والمؤشرات، وواقع المعاناة اليومية للمواطنين. فرغم ما تم تقديمه من أرقام ومشاريع، تبقى قضايا مثل غلاء المعيشة، وضعف الخدمات الصحية والتعليمية، واتساع الفوارق المجالية، ملفات ضاغطة لا تكفي لغة الأرقام وحدها للإجابة عنها.

إن الرهان الحقيقي ليس فقط في إقناع الجمهور بصدق الأرقام، بل في تحويل هذه المؤشرات إلى أثر محسوس في حياة الناس. فالمواطن الذي ينتظر من الدولة حلولا واقعية لقضاياه اليومية، لا يعنيه كثيرا من يتحدث في الإعلام، بقدر ما يهمه من يستجيب لحاجاته على الأرض.

في نهاية المطاف، يبقى من حق رئيس الحكومة أن يتواصل، ومن واجب المعارضة أن تراقب وتنتقد، ومن مسؤولية الإعلام أن يواكب بتحليل موضوعي بعيد عن التهويل أو التهوين. وبين هذه الأطراف، يبقى المواطن هو الحكم، وهو الهدف، وهو الغاية من كل خطاب سياسي أو قرار حكومي.

المطلوب اليوم ليس فقط تبرير الخرجات الإعلامية، بل تجويد محتواها، وربطها بالنتائج، والحرص على أن يكون الخطاب الرسمي صادقا، شفافا، وملتصقا قدر الإمكان بالواقع اليومي للمغاربة. فقط آنذاك، يمكن القول إن تواصل الدولة مع مواطنيها ليس مجرد تمرين شكلي، بل ركن أصيل في ممارسة ديمقراطية حقيقية.

رغم أن الخطاب حمل في طياته رسائل سياسية واضحة، إلا أنه ظل في إطاره المؤسساتي، ولم يتجاوز حدود التواصل الحكومي المنصوص عليه قانونا. وبالتالي، فإن وصف الظهور الإعلامي لرئيس الحكومة بـ”الحملة الانتخابية” يبقى حكما سياسيا أكثر منه توصيفا قانونيا. ومن ثم، فإن هذا المرور يعد طبيعيا، بل ومطلوبا في بلد يسعى إلى تعزيز ثقة المواطن في العمل العمومي وربط المسؤولية بالمحاسبة والتواصل المنتظم.

في المحصلة، لا يمكن تجريم تواصل رئيس الحكومة مع المواطنين عبر الإعلام العمومي، بل المطلوب هو المطالبة بالمزيد منه، من مختلف الفاعلين والمؤسسات، في اتجاه ترسيخ شفافية العمل السياسي وربط المسؤولية بالمحاسبة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *