طبشور في الصحراء

في دراستي الثانوية، ذات شتاء من شتاءات الجنوب حيث الريح تلسع العظام وتُحيل الدفاتر إلى شظايا ورقية تتطاير في الساحة، زارنا رجل قادم من بعيد، من مدينة اسمها “كازا”. كان حَسَن الطلعة، أنيقًا في هندامه، بربطة عنق غريبة اللون، لا هي حمراء ولا خضراء، كأنها إعلان حرب على الألوان نفسها.
كان يدرّس لنا لغة موليير، تلك اللغة التي كنا نحفظ جملها كما تُحفظ التعويذات، دون أن نفهم هل هي باب للحداثة أم مجرد سحر قديم لن يُنقذنا من قسوة المطر المتساقط على أسطح الزنك.
الأمر المثير أنّ الأستاذ القادم من كازا Casa، لا من الدار البيضاء كما يُصرّ على التصحيح! كان يفرض علينا أن نكتب أجوبة الامتحان في أوراق مزدوجة خضراء !؟ نشتريها من “المكتبة القديمة “هي بالمناسبة بعيدة من المكتبة قريبة من الدكان”، ونحملها كما يحمل الحجيج سبحاتهم، ثم نضعها أمامه يوم الامتحان حيث يعز المرء او يهان،
كنا نتساءل في صمت: ما علاقة هذه الأوراق الخضراء بالعلم؟ ولماذا ليست بيضاء كقلوبنا المرهقة أو حمراء كلون شمس الغروب فوق رمال تنفو؟ لكنّه بابتسامة غامضة، كان يردد:
“L’ordre, mes enfants… c’est la clé du progrès.”
وفي القسم، كنا نضحك خلسة: تلك الأوراق الخضراء ليست ودادية ولا رجاوية، لا علاقة لها بجنون ملعب محمد الخامس، ولا بالدم المسكوب في كاريان سنطرال هناك في كازا اقصد الدار البيضاء دار من لا دار له، حيث يلتقي جمهور الرجاء بالوداد على السخون، أما هذه فهي فقط أوراق باردة، بلا هوية، تُشبهنا نحن المهاجرين: غرباء في لغتنا، غرباء في مدينتنا، غرباء حتى في مستقبلنا.
المضحك ـ والمبكي في الآن ذاته ـ أنّ بعضنا كان يعتقد أن اللون الأخضر قد يرفع نقطته إلى مستوى أعلى، وأن الأستاذ ربما كان يخبئ سرًّا صوفيًّا قادم من الجوار: من سيرة الرحلة الشوكية، ومن كتب على غيره ضاع في ظلال الحمراء والبيضاء.
هكذا كبرنا بين ورقة مزدوجة خضراء، وحصص لغة موليير التي كانت تزرع فينا حبًّا غامضًا للمنفى. واليوم، حين أستعيد المشهد، أبتسم بسخرية: لقد كان الأستاذ أجمل من دروسه، والورقة الخضراء أغرب من تاريخ الرجاء والوداد مجتمعَين، ونحن كنا مجرد فصل دراسي عالق في كوميديا لا أحد كتب نهايتها…
اترك تعليقاً