أمغار: احتجاجات الهامش تفكك تراتبية المركز وتعيد طرح سؤال العدالة المجالية (حوار)

قال الأستاذ الباحث في علم الاجتماع بجامعة القاضي عياض بمراكش، مولود أمغار، في حوار له مع جريدة “العمق”، إن الاحتجاجات التي شهدتها مناطق مغربية نائية مثّلت تعبيرا جماعيا ضد اختلالات العدالة المجالية والشعور بالإقصاء التنموي. وأكد أمغار أن هذه التحركات نبعت من المعاناة اليومية للسكان وليس من أجندات حزبية، مشيرا إلى أن غياب البنى التحتية والخدمات الأساسية كان هو المحرك المباشر لها.
وأوضح الجامعي ذاته، من منظور سوسيولوجي، أن هذه الظاهرة نتجت عن تفاعل عوامل متعددة شملت الحرمان الاقتصادي والاجتماعي، والتهميش السياسي والجغرافي، ونمو الوعي بالحقوق. وبيّن أن مطالب المحتجين تجاوزت المطالبة بالخدمات الأساسية لتطرح إشكاليات أعمق تتعلق بمسألتي “التوزيع والاعتراف”، حيث لم يسعَ المحتجون للمطالبة بالماء والكهرباء فحسب، بل سعوا أيضا إلى نيل الاعتراف بهم كمواطنين كاملي الحقوق وإلى إعادة توزيع عادلة للموارد.
وانتقد أمغار النموذج التنموي المتبع الذي ركّز الاستثمارات في المراكز الحضرية الكبرى على حساب الهوامش، مما أدى إلى اتساع الفجوة التنموية. واستشهد ببيانات رسمية أظهرت استحواذ ثلاث جهات فقط على 58.5% من الناتج الداخلي الخام، معتبرا أن هذا الخلل عكس غياب العدالة في توزيع الثروة وبرر مطالب الهامش بإعادة توزيع الموارد المالية والبشرية.
ونبّه الباحث إلى أن اختزال هذه الاحتجاجات في مجرد ردود فعل على أزمة تنموية يُخفي صراعا أعمق حول النموذج التنموي ككل. وشدد على أن هذه الحركات الاحتجاجية لم تكن جديدة في تاريخ المغرب، لكن التطورات التكنولوجية منحتها رؤية أوسع. واعتبر أن هذه المطالب فعل يهدف إلى تفكيك التراتبية بين المركز والهامش، وإلى إعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع على أسس المساواة والاعتراف بالحقوق.
وفيما يلي نص الحوار كاملا
- ما أبرز الأسباب التي أدت إلى اندلاع الاحتجاجات الأخيرة في مناطق المغرب النائية؟
أعتقد أن الاحتجاجات التي شهدتها مناطق عدة في المغرب – من المتضررين من زلزال الحوز، وآيت بوكماز وبعض الدواوير الأخرى التابعة لإقليم أزيلال، ومناطق تاركا زكزات بجماعة آيت أمديس، ومدينة تاونات ودواويرها، إلى دواوير جماعة سيدي عيسى بن سليمان بإقليم قلعة السراغنة وأحياء جماعة تاكونيت وترناتة بإقليم زاكورة – تمثل صرخة جماعية ضد اختلالات العدالة المجالية وما يعرف بـ”المغرب المنسي”. هذه الاحتجاجات لا تقتصر على مطالب فئوية محدودة، بل تعبر عن شعور عميق بالإقصاء التنموي، حيث يظل غياب البنية التحتية الأساسية – من طرق وخدمات صحية وتعليمية ومرافق حيوية كالماء والكهرباء والاتصالات – جزءا من الواقع اليومي في هذه المناطق الجبلية والنائية.
- كيف تفسر محاولات بعض الأطراف ربط الاحتجاجات الأخيرة في المغرب بأجندات حزبية؟
تتولد هذه الاحتجاجات مباشرة من المعاناة اليومية للسكان وليس من أجندات حزبية كما يراد أن يروج له، وهو ما يمنحها شرعية ويوسع من دائرة التضامن والتعاطف معها. إن محاولة تسيس هذه الاحتجاجات أو ربطها بحزب سياسي معين لا تعدو أن تكون مسعى يائسا وغير موفق، يسعى للمس بمصداقيتها ونزع شرعيتها. خطاب “الشيطنة” الموجه ضدها لا يفاقم التوتر فحسب، بل يفتح أيضا الباب أمام انتقادات حقوقية وسياسية أوسع. ومن الطبيعي في هذه المرحلة الحساسة، التي تحاول فيها الحكومة تقديم رواية نجاحها عبر إنجازات المركز وحجم التنمية، أن تتخذ بعض الاحتجاجات ذريعة لاتهام أطراف معينة بمحاولة توظيف الهامش سياسيا من أجل التعبئة الانتخابية للانتخابات القادمة.
لقد حان الوقت للاستماع بانتباه لصوت الهامش، والاعتراف بأن هذا الهامش ليس واقعا طبيعيا، بل نتاج تراكم إخفاقات التنمية على مر الحكومات المتعاقبة. وبدلا من البحث عن شماعة لتعليق فشل السياسات، الأجدى هو إعادة طرح مسألة العدالة المجالية أمام الدولة، ودفع الفاعلين السياسيين والحزبيين إلى الانخراط الحقيقي في نقاش التنمية والحقوق الأساسية. في هذا الإطار، تتحول احتجاجات الهامش إلى فعل تفكيكي للتراتبية بين المركز والهامش، وتصبح مطالبة واضحة بإعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع على أسس المساواة والاعتراف.
- من وجهة نظر سوسيولوجية كيف تفسرون اندلاع هذه الاحتجاجات؟
هناك مداخل متعددة لتفسير هذه الاحتجاجات، لكنني شخصيا أميل إلى المداخل المتداخلة التي تجمع بين مختلف الأدوات المفاهيمية للسوسيولوجيا. من هذا المنظور، يمكن النظر إلى الاحتجاجات على أنها نتيجة تفاعلية بين الحرمان الاقتصادي والاجتماعي، والهامشية السياسية والجغرافية، والوعي المجتمعي المتزايد بالحق في المقاومة.
لقد تابعت هذه الاحتجاجات من خلال ما تنقله وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، إضافة إلى بعض التحليلات التي حاولت تقديم تفسيرات لها. وأود هنا أن أشير إلى نقطة أساسية تتعلق بالصورة التي تمنحها هذه التحليلات للاحتجاجات، إذ غالبًا ما يتم تصويرها على أنها مجرد ردود فعل على أزمة التنمية، أو نتيجة خلل وظيفي في إحدى آليات تدبير الحاجيات الأساسية للسكان على المستوى المحلي أو الجهوي في أقصى تقدير. بمعنى أدق، تعرض هذه الاحتجاجات كأعراض لأمراض النظام الاجتماعي. غير أن هذا النوع من التفسير، الذي يختزل الأفعال الجماعية في مجرد ردود فعل على أزمة محددة، ينطوي على شكل من الإخفاء، سواء كان مقصودا أو غير مقصود، للصراع الكامن، إذ إن الاحتجاجات التي تتشكل في هوامش المغرب ليست منفصلة عن جوهر الإشكال، الذي يتمثل أساسا في مسألة التوزيع والاعتراف.
من المهم التأكيد أن احتجاجات الهوامش ليست ظاهرة جديدة في المشهد الاحتجاجي والسياسي بالمغرب، لذلك لا ينبغي النظر إليها بشكل استغرابي أو مفاجئ. فالناظر إلى تاريخ الاحتجاجات بالمغرب سيكتشف الدور الكبير الذي لعبته ساكنة الهامش في عمليات التغيير الاجتماعي والسياسي. ولم تكن هذه الفئات يوما مستكينة لوضعها أو مستسلمة لمصيرها، غير أن التطورات التكنولوجية جعلت احتجاجاتها اليوم أكثر مرئية، وأبعد ما تكون عن أنظار الرأي العام.
ما أود التأكيد عليه هو أنه ليس من العدل اختزال احتجاجات هذه الساكنة في مجرد “مطالب الخدمات الأساسية”، إذ تعكس في جوهرها مشهدا صراعيا يعيد طرح سؤال العلاقة بين المركز والهامش، ويعيد تشكيل فهمنا للشرعية السياسية والعدالة في بعديها الاجتماعي والمجالي. هذه الاحتجاجات لا تطالب فقط بالماء، أو الطرق، أو التعليم، أو التطبيب، بل تطالب أولا بالاعتراف بحقها في الوجود ضمن مناطقها، لأن من سخرية السياسة أن البعد عن المركز أصبح تبريرًا لحرمانها من التنمية. كما تطالب ثانية بإعادة توزيع الموارد، وإعادة تعريف طرق التمثيل السياسي، وضمان الحق في التنمية والعدالة الاجتماعية والمجالية.
- هل يمكن اختزال احتجاجات هوامش المغرب في مجرد تأخر تنموي؟
إن الصراع القائم لا يمكن اختزاله في بعد جغرافي بين المركز والهوامش، أو فيما يتداول سياسيا وإعلاميا تحت مسمى “مغرب بسرعتين”، حيث تسير التنمية في الهوامش بإيقاع متباطئ مقارنة مع المراكز الحضرية الكبرى – مثل الرباط والدار البيضاء وطنجة ومراكش وأكادير – التي يعاد هيكلتها وتوجيه استثمارات ضخمة إليها لتكون فضاءات تستوعب الأنشطة الاقتصادية والدولية. بل إن الأمر يتجاوز ذلك إلى صراع أعمق حول النموذج التنموي ذاته. فالمركز يتبنى رؤية تنموية تركز على البنى التحتية الضخمة والقطاعات ذات العائد السريع، في حين تستبعد المناطق الجبلية والنائية من هذا التصور، مما يكرس اتساع الفجوة التنموية ويعيد إنتاج أشكال عدم المساواة على المستويين الاجتماعي والمجالي. والحلول المؤقتة التي تقدم كوصفات لحل مشكلات الهامش لا تتجاوز كونها مسكنات للأعراض، أما العلاج الحقيقي فيكمن في تبني نموذج تنموي شامل يعالج جذور الأزمة.
أما فكرة الاعتراف بالحق في الوجود، فهي تمثل جوهر هذه الحركات الاحتجاجية. فالمطالبة بالاعتراف ليست مجرد صرخة للحصول على خدمات، بل هي رفض للتهميش الرمزي والاجتماعي الذي يقصي هذه الفئات من المجال الوطني، ويحولها إلى كائنات غير مرئية في مخيلة مدبري الشأن العام. الاعتراف هنا هو دعوة لإعادة تقييم نظرة الحكومات المتعاقبة لهذه المجالات ولسكانها باعتبارهم مواطنين كاملي الحقوق، بصرف النظر عن موقعهم الجغرافي أو مردوديتهم الاقتصادية.
بالرجوع إلى تقرير الحسابات الجهوية لسنة 2023 الصادرة عن المندوبية السامية للتخطيط، فقد استحوذت ثلاث جهات فقط – الدار البيضاء-سطات، الرباط-سلا-القنيطرة، وطنجة-تطوان-الحسيمة – على 58.5% من الناتج الداخلي الخام الوطني، حيث ساهمت جهة الدار البيضاء-سطات وحدها بـ 32.2% بفضل ديناميتها الصناعية والخدماتية والتجارية. في المقابل، لم تتجاوز مساهمة جهات مثل درعة-تافيلالت والأقاليم الجنوبية الثلاث مجتمعة سوى 7.6%، وهو ما يعكس بوضوح اتساع الفجوة التنموية.
للاستدراك هذه الأرقام، تكشف عن خلل في عدالة الإنفاق العام، وتشرعن لمطلب إعادة توزيع الموارد الذي تحمله احتجاجات الهامش والذي يشمل الموارد المالية والموارد البشرية – من أطباء ومهندسين ومدرسين – الذين يتركزون في المدن الكبرى، مما يزيد من تعقيد أزمة الخدمات في الهوامش ويكرس حلقة التفاوت.
اترك تعليقاً