منتدى العمق

حوار بوتين وشي بينغ: “إثبات الذات” بمعزل عن السماء

قبل أيام، وفي عيد النصر ال 80 بالصين، دار حوار جانبي، أثار فضول العالم، بين الرئيس الصيني شي بينغ والرئيس الروسي بوتين:

قال شي لبوتين: ” في السابق كان الناس نادرا ما يعيشون حتى سن 70، أما اليوم ففي السبعين ما زلت طفلا”

يرد بوتين: ” مع تطور التكنولوجيا الحيوية يمكن زرع الأعضاء بشكل نتواصل فيعيش الانسان أصغر فأصغر سنا، بل حتى يمكنه تحقيق الخلود”.

تابع شي قائلا: التوقعات تشير إلى أن هذا القرن قد يمنح البشر فرصة للعيش حتى 150 عاما”.

يعد هذا الحوار بين رئيسين من العيار الثقيل والطراز الرفيع دليلا على أن الحداثة لا غربية ولا شرقية، فهي أفق العصر، بل هي حقا برنامج وجودي يشتغل في ظله الجميع، هذا البرنامج شديد الخصوصية والأصالة كما عبر عن ذلك الفيلسوف “هانس بلومنبرغ، فالحداثة مشروع لم يكتمل بعد وهي ورش يتم فيه العمل بطريقة النمل لبلوغ “إثبات الذات” بمعزل عن السماء.

فكيف ذلك؟

الحداثة: كبرنامج وجودي بمعزل عن السماء.

تعد الحداثة بنية معنى فريدة من نوعها، إنها رؤية للعالم بقدر ما لها أواصر قرابة بالعصور الوسطى، بقدر ما هي متميزة عنها.
فإذا كانت العديد من القراءات الدينية في القرون الوسطى، لعبت دور المحامي في الدفاع عن خيرية الله و”تبرئته” من الشر الظاهر في العالم، لأنه يتعالى عن ذلك، مكرسة فكرة أن الشر نتاج الإنسان نفسه، إذ هو المسؤول الأوحد عنه، لأنه صاحب الخطيئة الأولى، الأمر الذي دفع البرنامج الوجودي للقرون الوسطى إلى إيقاف حرية الإنسان وشل حركته ، منعا له من التدخل من جديد في العالم حرصا منه على عدم تكرار الخطيئة للمرة الثانية، وترك الخلاص من الشر المستفحل في العالم بيد الله وحده، فالنعمة الإلهية هي المنجاة الوحيدة، والإنسان ما عليه سوى انتظار لحظة تحطيم العالم المادي برمته.

فإن هذا الجواب على سؤال الشر في العالم لم يعد مع مر الوقت مسعفا، وذلك لنضج شروط تاريخية ونظرية مع الوقت ستدفع الإنسان لإحداث نقلة في زاوية النظر، بل سيصل الأمر إلى تسليم السلطة من يد “الله ” إلى يد “الإنسان”…

ولا أحتاج في هذا المقال الخاطف أن أتحدث عن المخاض الفلسفي القروسطي الذي توج بالنزعة الاسمية وإرادة سحقها لكل وجود واقعي للكليات، حيث ستغدو مثلا كلية” الله ” هلامية ومجرد اسم دون سند موضوعي، الأمر الذي سيوازيه هلامية أخرى كوسمولوجية تمثلت في الثورة الكوبيرنيكة التي ستدق مسمارا في نعش”فكرة العناية” فالإنسان أصبح يحس بما أسميه:”المتروكية”، لأنه في حصاة في عالم لا نهائي لا يمكنه أن يكون قد خلق من أجله، فهو يتجاوز حاجاته.

في ظل هذه الشروط وأخرى سينبثق مشروع البرنامج الوجودي الحداثي الذي سيكون بتعبير هانس بلومنبرغ بنية معنى أصيل وخاص جدا ومختلف عن القرون السابقة، فالإنسان ولأول مرة سيتحمل مسؤوليته بالمفرد دون معية السماء وسيحاول بتعبيره أيضا ” إثبات ذاته” المكبلة والمسحوقة في البرنامج الوجودي القديم.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذا البرنامج سيأخد مساره عن طريق ظهور عقلانية جديدة قوامها ليس فقط الاستقواء على العالم بل قوامها أيضا ،كما يؤكد بلومنبرغ، التواضع والعمل وفق خطوات هادئة وطويلة المدى لتحقيق المبتغى والذي هو التغلب على الشر في العالم من خلال الإمكانات الإنسانية الخاصة، هذه الخطة تمثلت في هوس المنهج، ويكفي التذكير بديكارت ورسمه لملامح الطريقة التي بها ينبغي قيادة العقل وبحرية للسيطرة على العالم والتحرر من قيوده.

لذلك فالبرنامج الوجودي للحداثة هو برنامج قيد الإنجاز ولم ينته بعد.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى ينبغي التذكير، وكما نعلم، بأن فكرة التقدم التي هي سمة أساسية في الحداثة تختلف جذريا عن فكرة التقدم اللاهوتية، فهذه الأخيرة تسير وفق برنامج إلهي هو المعول عليه لإنهاء مأساة الانسان وإيقاف الشر الذي له يد فيه، أما التقدم الحداثي كما بلورته فلسفات التاريخ منذ عصر الأنوار فهو تقدم يتم بصناعة الإنسان وفق أفق “إثبات الذات” وعن طريق المزيد من إنجاح الأسلوب العلمي في كل مناحي الحياة.

بكلمة مختصرة نقول إن البرنامج الوجودي للقرون الوسطى كان بخلاص مفارق، بينما البرنامج الوجودي الحديث هو يشتغل بخلاص محايث.

إن حوار بوتين وشينغ عن الخلود يلخص بجلاء: مسار البرنامج الوجودي الحداثي أو هو باختصار يعطي فكرة عن بنية المعنى القائمة على إثبات الذات والسير في الحياة دون “عناية إلهية”، إنه الحوار الذي يبرز أن الحداثة لم يتم تجاوزها، فهي لاتزال تشتغل بنفس الرؤية المحايثة، حيث التغلب على القيود و”الشرور” والاهتمام بالحياة ومجابهة الموت حد طلب الخلود يتم من خلال خطة، للإنسان اليد الطولى فيها.

إضافة إلى ذلك، هو حوار يؤكد بجلاء أننا في عالمنا العربي لانزال، خاصة عند العموم، نشتغل بالبرنامج الوجودي القديم، فهل حقا يمكن لبنية المعنى القروسطية الصمود؟ وهل مازال لديها ما نحل بها مآزقنا؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *