منتدى العمق

صناعة التفاهة: من يعبث بذوق المغاربة؟

لم يعد من الغريب أن تتصدر محتويات سطحية، بل أحيانًا منحرفة، منصات التواصل الاجتماعي في المغرب، وتحقق نسب مشاهدات خيالية، بينما تتوارى مضامين ذات قيمة خلف جدران الإهمال الرقمي. هذه الظاهرة ليست وليدة الصدفة، بل هي نتيجة لصناعة ممنهجة لـ”التفاهة”، حيث تغيب المعايير التربوية والثقافية، وتحضر لغة السوق والربح والفرجة الفارغة.

إن أولى خطوات هذا الانحدار تبدأ من إضعاف عقل المجتمع، وتهيئته لتقبّل التفاهة والانجذاب لها. ولا يتم ذلك إلا عبر التعليم والإعلام، وهما الذراعان الأخطر في تشكيل الوعي الجماعي. حين يفقد التعليم قدرته على بناء الحس النقدي، ويستسلم الإعلام إلى الابتذال والمجانية، يصبح من الطبيعي أن يكون “الترند” لمقاطع عبثية، وتُصنع نجومية من فراغ.

ومن أخطر مظاهر هذا الواقع هو “تقديم التافهين” كقدوات، في حين يُقصى المفكر، ويُهمش العالم، ويُسخر من المربي. تُفتح أبواب المنصات، ويتم التكريم والاحتفاء، لمن لا يقدم شيئًا يُذكر، سوى الترويج لأنماط منحرفة من السلوك، وتكريس أنماط من اللباس والكلام والتفكير لا تمت لهوية المجتمع ولا أخلاقه بصلة.

ومن العبث أن نبحث عن حلول جدية بينما من بيدهم القرار هم ذاتهم من يرعون هذه التفاهة. إذ في كثير من الحالات، لا تتحرك مؤسسات الدولة المعنية لمواجهة المحتويات المنحرفة إلا بعد ضجة شعبية، وكأن حراسة القيم مسؤولية الشعب لا الدولة، مع أن الأصل أن تكون هذه المؤسسات هي الحصن الأول لما يضمن استقرار الذوق العام وحماية المجتمع من الانهيار القيمي.

والأدهى، أن هذا الانحدار لا يقتصر على الداخل، بل إن المتابع الأجنبي الذي يُطالع هذه المحتويات، قد يظن أن ما يُنشر يعكس حقيقة المجتمع المغربي، وأن تلك “الشرذمة” من صناع الانحطاط تمثلنا جميعًا. الأسوأ من ذلك، أن كثيرًا من هذه المحتويات تسيء إلى صورة المرأة المغربية، وتختزلها في دور المتعة والاستهلاك، وهي اختزالات تمس بكرامة الإنسان قبل أن تمس بصورة الوطن.

وهنا يبرز تساؤل عميق: هل يمكن أن نقيس مؤشر قيم الشعب بحجم ردود أفعاله؟ وإذا كان الغالبية يستهلكون هذه المضامين في صمت أو ضحك، فهل هم راضون عنها؟ أم أن هذا الصمت هو تعبير عن استسلام جماعي لما يُفرض علينا من انحراف ناعم وممنهج؟

وقد يُقال إن هذه المحتويات “تجلب المشاهدات”، لكن السؤال الأهم: ما الذي رَبَّينا عليه المواطن حتى أصبح ذوقه ينجذب إلى السخف والابتذال؟ هل نحن نتيجة تعليم هش، وإعلام بلا بوصلات، ومؤسسات لا ترى في الثقافة والوعي أولوية؟ إننا أمام مسؤولية جماعية في إعادة صياغة الذوق العام، لكنها تبدأ أولًا بإرادة سياسية واضحة تضع حدودًا لهذا العبث.

ومن بين الحلول الممكنة، وجوب فرض قوانين صارمة لمعاقبة من يروّج لانحرافات صريحة، لا باسم الحرية، بل باسم الانحطاط المقنن، وإلا فإن السكوت المؤسساتي هو مشاركة في الجُرم، مع سبق الإصرار والترصد.

فإذا كانت المهرجانات والبرامج التي تصرف عليها الملايين تقدم نماذج عبثية، وتُروّج مؤثرين منحرفين، فلا نستغرب هذا التردي الأخلاقي. وإذا كنا نمنح الفضاء كله للتافهين، ثم نتساءل عن غياب الوعي، فنحن من نخدع أنفسنا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *