هل للفساد عنوان في المغرب؟ الصفقات العمومية

الفساد بين الانحراف الفردي والبنية المؤسساتية
عندما يُطرح سؤال: هل للفساد عنوان في المغرب؟ لا يحتاج الجواب إلى تردد. العنوان الأبرز هو الصفقات العمومية. ليس لأنها المجال الوحيد الذي يتسرب منه الفساد، بل لأنها المرآة التي تكشف كيف يُدار المال العام، وكيف تُترجم السلطة السياسية إلى مصالح اقتصادية. فالصفقات ليست مجرد عقود إدارية لتصريف اعتمادات، بل هي الأداة التي من خلالها تُبنى الطرق والمدارس والمستشفيات، وترسم ملامح التنمية. أي خلل فيها يعني خللاً في بنية الدولة نفسها.
لماذا تتحكم الصفقات في القانون بدل أن تخضع له؟
من المفارقات التي تكشف هشاشة البناء القانوني أنّ الصفقات العمومية مؤطرة فقط بمرسوم ، بينما المالية العامة والمحاسبة العمومية مؤطرتان بقوانين صادرة عن البرلمان. المنطق يفرض أن تكون القاعدة الأعلى، أي القانون، هي التي تحكم القاعدة الأدنى، أي المرسوم. لكن الممارسة أظهرت العكس: الصفقات، رغم ضعف أساسها التشريعي، تمارس سلطة أقوى من القانون نفسه، لأنها أصبحت المجال الذي يُعيد صياغة ميزانيات الدولة على أرض الواقع. وهذا الانقلاب في الهرمية التشريعية يكشف أن منطق الممارسة أقوى من منطق النص.
هل المراسيم المتجاوزة تُنتج الإفلات من المسؤولية؟
تنفيذ الصفقات ما زال محكوماً بمرسومين متجاوزين لم يعودا قادرين على مواكبة تعقيدات الواقع الاقتصادي والإداري. هذه الوضعية تنتج التباساً في تحديد المسؤوليات وتفتح الباب أمام الإفلات من العقاب. المسؤول المالي أو الإداري يجد دائماً ثغرة يتملص بها، والقضاء حين يُعرض عليه الملف يُربك التكييف: هل هو مجرد سوء تسيير أم تبديد للمال العام؟ غياب معايير دقيقة يجعل التكييف الجنائي انتقائياً، فيعتبر فعل ما خطأً إدارياً بسيطاً في حالة، بينما يُضخّم ليُصبح تبديداً للمال العام كفعل جنائي في حالة أخرى، حسب الظروف والفاعلين.
هل يكفي مرسوم 2023 لإصلاح منظومة مترسخة؟
مرسوم 2023 جاء ليقدَّم كإصلاح شامل، يُدخل الرقمنة، يقلص الاستثناءات. لكنه يثير سؤالاً جوهرياً: هل تكفي إعادة ترتيب النصوص لتغيير بنية الفساد؟ الواقع يُظهر أن النصوص، مهما بدت صارمة، سرعان ما تُفرغ من محتواها في ظل ثقافة إدارية قائمة على الريع والتوافقات الموازية. يزيده في ذالك أريحية وجود نص يحتمل أكثر من قراءة و عدة تأويلات . الإصلاح بالنصوص يبقى سطحياً إذا لم يترافق مع إرادة سياسية ومؤسساتية قادرة على تحويل المقتضيات إلى ممارسة فعلية.
كيف تتحول الرقمنة من أداة إصلاح إلى قناع للريع؟
من أبرز ما جاء به مرسوم 2023 تعميم الرقمنة، باعتبارها وسيلة لضبط العمليات وتعزيز الرقابة المجتمعية. غير أن الرقمنة، في غياب إرادة صلبة، قد تتحول إلى مجرد قناع يغطي الأعطاب القديمة. فالمنصات الإلكترونية قد تمنح انطباعاً بالشفافية، بينما تظل القرارات الحاسمة تُتخذ في الظل (سندات الطلب و المناقصة الالكترونية مثالا) . الرقمنة إذن ليست غاية في حد ذاتها، بل أداة يمكن أن تُستخدم في اتجاه الإصلاح أو في تكريس نفس الممارسات.
لماذا تُفرغ الصفقات العمومية المالية العامة من مضمونها؟
المالية العامة مؤطرة بقوانين دقيقة تحدد المداخيل والنفقات وتُصادق عليها المؤسسات المنتخبة. لكن على أرض الواقع، تتحول الصفقات إلى المجال الذي يُفرغ هذه القوانين من محتواها. فالميزانية التي يقرها البرلمان تُعاد صياغتها عبر مسارات التنفيذ، حيث تضخيم الكميات، إدخال أشغال إضافية، أو منافسات صورية بل أكثر من ذالك لماذا يتم الإعلان عن معظم الصفقات في الجزء الأخير من السنة المالية هل الأمر صدفة دائما أم امتثالا لمبدأ السنوية الذي لم يعد له معنى مثله في ذالك مثل مبدأ الصدقية !. وبدل أن تكون الصفقات إذن وسيلة لتحقيق أهداف القانون المالي، تصبح أداة لنسف منطقه الداخلي، مما يضعف مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة.
أي هندسة تعاقدية بديلة نحتاج؟
الخروج من مأزق الصفقات لا يمر عبر تحديث المراسيم فقط، بل عبر بناء هندسة تعاقدية جديدة تجعل من العقد العمومي أداة لتحقيق الأثر الاجتماعي. هذه الهندسة يجب أن تقوم على:
• إعادة كتابة دفاتر الشروط الخاصة و نظم الاستشارة مع ضبط حالات اللجوء إلى العرض التقني بفلسفة مبنية على النتائج و على الرقابة لا على أهواء الأمرين بالصرف و المحاسبين العموميين.
• ربط إنجاز المشاريع بمؤشرات دقيقة للجودة والأثر، وليس فقط بإنهاء الأشغال شكلياً.
• تفعيل المحاسبة الفردية والجماعية معاً، حتى لا يبقى القرار الإداري في منطقة رمادية.
• إشراك المجتمع المدني والإعلام في الرقابة المواكبة، لا بعد فوات الأوان.
• تحويل الرقمنة إلى أداة للتتبع الميداني الفعلي، لا إلى واجهة تقنية شكلية.
• تغيير الثقافة الإدارية التي ما زالت تعتبر الصفقات وسيلة لتوزيع النفوذ لا لتحقيق التنمية.
أخيرا : من عنوان الفساد إلى رهان الثقة
الصفقات العمومية هي العنوان الأبرز للفساد في المغرب، لأنها تكثف التناقض بين قوة النصوص وضعف الممارسة، بين القانون والمرسوم، بين الرقمنة والواقع، بين المحاسبة والريع. لكن تحويلها من أداة فساد إلى رافعة تنمية يقتضي إعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة عبر صفقة عمومية نظيفة، شفافة، وذات أثر ملموس. حين يرى المواطن مدرسة متينة، مستشفى مجهزاً، طريقاً آمناً، عندها فقط يمكن القول إن المغرب تجاوز مرحلة الصفقات كعنوان للفساد إلى مرحلة الصفقات كعنوان للتنمية
اترك تعليقاً