مشهد تأملي في واقع عرب 2048!

بعيدا عن “نظرية اللعبة” المتداولة في تدبير العلاقات الدولية، دعونا نعتمد “منهج الاستشراف” كما يوظّفه علماء الدراسات المستقبلية في توقع ما هو آت، وإن كان أغلبنا يولي الأسبقية لمعنى عبارة “الغيب علمه عند الله”، وإن كان الله تعالى خلق العباد وحثهم على إعمال العقل، وأن المؤمن المتعلم خير من المؤمن الجاهل.
يحلّ عام 2048، ونصحو معه على واقع جديد يكرس نكبة أضخم من سابقتها قبل مئة عام، ولم نضرب لها حسابات دقيقة عام 2025 عقب هجمات إسرائيل على سبع دول عربية في عام واحد. لحظتها نتأمّل خارطة المنطقة العربية وقد خضعت لمقصّات جديدة أكثر شراسة من مقصّ سايس-بيكو. عشر دول عربية تبخّر وجود سيادتها أو تمّ اقتطاع قدر مهمّ من أراضيها لكي تتسع رقعة إسرائيل وتحقق مشروعها في “شرق أوسط جديد”. عشر دول عربية تدخل مرحلة الانكماش بداية بفلسطين، ومصر، والسودان، والأردن، ولبنان، وسوريا، والعراق، والسعودية، واليمن، والصومال.
خمس دول أخرى ستعيش حقبة جديدة في تبعيتها للخلافة الإسرائيلية، على غرار ما كان عليه الحال خلال ارتباط جلّ المنطقة العربية بنفوذ الخلافة العثمانية: الإمارات، والبحرين، وتونس، والجزائر، والمغرب. وبالطبع، لن يتحقق اقتطاع أراضي هذه الدول أو تغيير بنية القرار السياسي في عواصم هذا الدول بفضل قدرات إسرائيل بمفردها، بل بفضل واشنطن التي تُدَسْتِر (من أصل دستور) علاقاتها مع الأنظمة العربية على أساس مركزية مصالح إسرائيل وضمان توسعها في المنطقة.
نصحو عام 2048 أيضا على اندثار الحركات والأحزاب ذات المرجعية الإسلامية، على هدي حملة إسرائيل ضد حماس والجهاد الإسلامي وحزب الله عام 2025.
وأي نظرة ثاقبة إلى أدبيات إسرائيل وبنية العقل لدى النخبة السياسية والعسكرية والاستخباراتية تكشف أن ما يمثل الخطر الحقيقي في تقديرهم ليس العرب الحداثيين، ولا العرب الليبراليين، ولا العرب القوميين، ولا العرب الوطنيين، ولا العرب دعاة الحل الدبلوماسي، ولا عرب الاعتداد باتفاق أوسلو.. كلا، حنقُ إسرائيل حاضرًا ومستقبلا ينصب أساسا على الحركة الإسلامية التي تظل تيار المقاومة الفعلية في الميدان، ولا تساوم نفسها بين انتظارات الدبلوماسية وبراغماتية العمل على إنهاء الاحتلال الإسرائيلي.
أستحضر هنا اثنتين من العبارات التي أثارت الكثير من اللغط والتأويلات لامتناهية الإسقاطات لزعيم حزب العدالة والتنمية عبد الإلاه بنكيران عندما قال: “لم يعد يرى مانعاً في أن تقصف إسرائيل حتى مقر حزبه.. و“إذا لم تحمونا من إسرائيل، ما بقات بيعة.”
لستُ من مؤيدي الرجل ولا من مناصري حزبه، ولي تحفظات على بعض مواقفه وسياساته السابقة عندما كان على رأس الحكومة قبل 2016، على غرار قراءاتي النقدية لرؤساء حكومات سابقين وحاليين. غير أن فحوى عبارته الأولى تنمّ عن إدراك متريث لدلالة هجوم إسرائيل على الدوحة، وعدم تحرك البيت الأبيض لإيقاف الهجوم ما دام أنه يستهدف “القضاء على قادة حماس”، مما يوضح المعنى الضمني لتلويح ترمب بأنه كان يوجه “تحذيره الأخير” إلى من تبقى من قادة حماس إنْ لم يقبلوا شروط الوثيقة الجديدة لخطة المفاوضات التي تعتبر الولايات المتحدة نفسها فيها “وسيطا” إلى جانب الوساطتين القطرية والمصرية.
استشعر بنكيران في أقصى المغارب ربما ما لا يستوعبه غيره في أقرب المشارق في استشراف ما في جعبة نتنياهو وخلفائه المقبلين من اليمين المتطرف بالتوازي مع تيار يتنامى في الولايات المتحدة، ويمكن الاصطلاح عليه بالتحالف “الصهيو-تلمودي-ترمبي”. وما نعايش حاليا منذ بداية 2025 هو تأجج هذا التيار الذي يفرض، حتى على الأمريكيين، مصلحة إسرائيل أولا، ناهيك عن أسبقيتها على مصلحة واشنطن في العلاقات القطرية الأمريكية، أو العلاقات الخليجية الأمريكية، أو بشكل أعمّ العلاقات العربية الأمريكية.
عندما يتشبع العقل البارد بهذه الحقيقة، فإنه يستطيع أن يلمس ما قصده بنكيران عندما قال إن الهجمات الإسرائيلية “لم تعد متعلقة بحركة حماس ولا بجماعة الإخوان المسلمين ولا حتى بسكان غزة أو عموم الفلسطينيين… ليست هناك دولة عربية واحدة يمكن أن تدعي أنها اليوم آمنة من جهة إسرائيل.”
وسط هول الصدمة الحالية، لم تستوعب جلّ العواصم العربية دلالة أن توجه إسرائيل صواريخها إلى عمق الدوحة، في أول عدوان على أراض خليجية منذ قيام الصراع الفلسطيني الإسرائيلي عام 1948. وسؤال الأمن القومي الخليجي جزء من المتاهة الكبرى: ما الذي يحقق مناعة الأمن القومي العربي من الخليج إلى المحيط؟ ما الذي يضمن ألا تستهدف صواريخ إسرائيل عاصمة لا ترتاح لسياسة قادتها أو تزعجها مظاهرات أحزاب وجماعات تعبر عن روح مقاومة إسلامية في معارضة مشروع إسرائيل؟
مشهد كئيب أصبح احتمالا واردا في أي لحظة وإن تكدست الأسلحة والرادارات والقواعد العسكرية الوطنية والأجنبية على أراضي أي دولة عربية من الماء إلى الماء. ون أخطاء الذهنية العربية أنها عادة تنفر أو تتفادى التفكير في الاحتمالات السيئة بمنطق كم من قضية حللناها بتركها، أو بالأحرى: من من تهديد تجاوزناه بعدم التفكير فيه!
قد يقول قائل إن السيناريو القائل بتحلّل أو تفكك أراضي عشر دول عربية وتبعية خمس أخرى إلى “الخلافة الإسرائيلية” غير واقعي ومن قبيل قصص هوليود الخيال العلمي. وقد يذهب البعض إلى أن الدراسات المستقبلية ليست علما اجتماعيا، بل مجرد “حدس تخميني” لا يستند إلى مؤشرات وأدوات بحث موثوقة.
لم يكن قيام دولة إسرائيل بالأساس عام 1948، ولا حصيلة حروب 67 و73، و2006، و2008-2009، و2014، و2021، والحرب المفتوحة متعددة الجبهات 2023-2025 قائما على نظرية ضرب الحجرات في الرمل، أو ما قالته “قارئة الفنجان”، بل نتيجة تخطيط واستشراف طويل الأمد. وحتى مشروع “الشرق الأوسط الجديد” وفق ديناميات 2025 وقرينته بما دعت لها كوندوليزا رايس عام 2006 بعبارة “الفوضى الخلاقة”، وقبلها دعوة جورج بوش الأب لبلورة “نظام عالمي جديد” يمثل حلقات تفكير وتخطيط متكاملة الحلقات قبل الوصول إلى عزم ترمب تهجير سكان غزة وتشييد “ريفيرا شرق أوسط” حسب مواصفاته وقياساته السياسية والمالية.
واقع 2025 قبل تأمل المشهد المحتمل لعام 2048 لا ينفصل ولا يجد دلالته إلا بنظرية الاستشراف التي يحسنها الآخر، وينفر منها العربي بحكم ميوله إلى تقليص سرعة محرّك العقل وفسح المجال أكثر للانفعال وتفكير القدريات والغيبيات والقبوع ذهنيًا ونفسيًا في خانة الماضي، دونما رغبة حقيقية في الانتقال إلى خانة المستقبل وإعمال العقل البارد نحو تحديات المستقبل.
…
اترك تعليقاً