وجهة نظر

الاحتجاج بين المطالب والاختراق: استغلال الشباب يغتال حلم الإصلاح

في مدن مثل إنزكان، وجدة، أكادير، والصخيرات، تشهد الشوارع اليوم موجة احتجاجات تعبّر عن غضب ملموس لدى فئات واسعة من الشباب، الذين دفعهم الإحساس بالظلم إلى المطالبة بإصلاحات حقيقية. هذه المطالب لا تُعبر فقط عن نفاد صبر، بل عن استحقاق مجتمعي صار يطالب بالكرامة والمساءلة والتنمية.

أولًا: مطالب مشروعة وسط غياب الأفق

الشباب المحتج في هذه المدن لا يطلبون المعجزة، بل ببساطة يحلمون بما هو أقل مما هو مفروض عليهم: خدمات عمومية أفضل، فرص اقتصادية عادلة، حقوق متساوية في التمثيل وتوزيع الموارد. هذه المطالب ليست نابعة من ازدواجية في الطموحات، بل من واقع يومي مرير: البطالة، غلاء المعيشة، ضعف البنى التحتية، والإحساس بأن الصوت لا يصل إلى من يملك السلطة.

ثانيًا: خطر التشويه والمخترقون

من الطبيعي في أي حركة شعبية أن تحاول جهات مختلفة الاستفادة منها. ففي إنزكان، كما في بعض المدن الأخرى، يتردد أن هناك أفرادًا يستغلون الأجواء الاحتجاجية لتحقيق أجنداتهم، بعضهم معروف، بعضهم غامض. وهذا الأمر يُلقي بظلاله على حركة الاحتجاج نفسها، خاصة عندما تُمارس أعمال تخريبية أو يتدخل العنف بطريقة تُفقد الاحتجاج شرعيته في نظر الناشطين والمواطنين.

ثالثًا: العنف والتخريب… فقدان الشرعية أولًا

حين يُستخدم العنف، كإشعال النار أو رشق الحجارة أو اقتحام المؤسسات، حتى وإن كان مدفوعًا بالغضب، فإنه لا يُسقط المسؤولية القانونية فحسب، بل يُضعف موقف المحتجين لدى الرأي العام. الشرعية لا تُطلب فقط بالكلمات؛ بل بالحضور المنظم، والمطالبة العقلانية، والاحترام للقوانين. الاحتجاج الذي يتحول إلى مواجهة مباشرة مع المؤسسات الأمنية غالبًا ما يفتح الباب أمام ردود فعل قد تكون أكثر تعقيدًا وأكثر ضررًا من جذور الاحتجاج ذاته.

رابعًا: دور المجتمع المدني والأسرة والدولة

الأسرة، الجمعيات، النخب المحلية، الإعلام، والمؤسسات الرسمية — كل هؤلاء لهم دور محوري في توجيه الوضع نحو المسار السلمي. أولياء الأمور يمكن أن يكونوا جسرًا للحوار بين الشباب وهيئات الأمن، بتفهّم مخاوف أبنائهم وتوجيههم. الجمعيات المدنية يمكن أن تُنظم فضاءات للتعبير الآمن. الإعلام يمكن أن ينقل الحقيقة كاملة، لا مقتطعة، بدون مبالغة أو تشويه. والدولة مطالبة بإظهار الاستجابة: الإصلاحات التجريبية، الإصغاء الحقيقي، بل واتخاذ خطوات ملموسة تُظهر جدية الكلمة.

خامسًا: كيف يتمكن الاحتجاج من أن يكون عاملًا للتغيير؟

لتتحول الاعتراضات الشعبية إلى أدوات إصلاح فعّالة، لا بد من استراتيجية متكاملة:

الوضوح في المطالب: تحديد ما يريدونه بدقة— إصلاح التعليم، الصحة، السكن، البطالة—حتى لا تُختلط الرؤى وتُستثمر الأجواء.

التنظيم السلمي: تجمعات منظمة، جداول زمنية، ممثلون يُعبّرون، قنوات للحوار مع السلطات.

المتابعة الحقوقية والقضائية: الاحتجاج مشروع، لكن يجب أن يُحترم القانون، ومن يخرقه يتحمّل المسؤولية.

الشفافية الإعلامية: أن يُغطَّى الاحتجاج بأمانة، دون تأجيج، ودون إساءة للأشخاص أو القطاعات التي تعاني أساسًا.

الإصلاح من القاعدة: ليس فقط الإصلاحات الكبرى، بل ما يمكن إنجازه محليًا في المدن المتضررة — تحسين مرافق، توفير مياه، تنظيف، إنارة، صيانة المؤسسات العامة.

الاحتجاج حق من حقوق المواطن المقهور، أن يعبّر عن ألم، عن مطالب، عن حلم. لكن هذا الحق لا يُمارس في فراغ، بل في إطار مسؤولية جماعية. من يظن أن صمت الشارع أفضل من صوته، يخدع نفسه. ومن يقمع الاحتجاج بدل الرد على المطالب، يختار دوامة التوتر بدلاً من مسار الأمان والإصلاح.

إنزكان، وجدة، أكادير، الصخيرات — ليست ساحات نزاع فقط، بل مرايا لمغرب يتوق إلى أن يتحرر من الأعباء المزمنة. والمطلوب اليوم ليس غضبًا عشوائيًا، بل حوارًا رشيدًا، استجابة جريئة، شفافية، ورؤية تُعيد بناء الثقة بين المواطن والدولة. فقوة الاحتجاج لا تُقاس بالحجارة المرمية، بل بصدى الصوت الذي لا يُخمد ولا يُشترى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *