تحولات الاعتقال في زمن جيل “Z”

تقديم:
في نظرية الدولة الحديثة، يظلّ الجهاز الأمنيّ، بوصفه جزءاً من السلطة التنفيذية، المالك الحصريّ للحق في استخدام العنف الشرعي بهدف الحفاظ على النظام العام. هذا الحق، الذي نظّر له فلاسفة السياسة والاجتماع، وفي مقدمتهم ماكس فيبر، يُعرف بكونه احتِكار الدولة لاستخدام القوة ضمن حدود القانون. ولا يُقصد بالعنف هنا التعدّي أو التجاوز، بل يشمل التدخلات الأمنية الضرورية كالتوقيف والتفريق، شرط أن تكون مبررة قانونياً ومتناسبة مع الوضع، وأن تُمارس ضمن إطار احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية.
بيد أنَّ الذاكرة التاريخية تحمل فصولاً مغايرة، خاصةً خلال ما يُعرف بـ «سنوات الرصاص” (التي امتدت من ستينيات إلى ثمانينيات القرن الماضي)، حيث سُجّلت حالات اعتقال خارج الضوابط القانونية المعمول بها اليوم. لقد اتّسمت تلك المرحلة بتوترات سياسية عميقة وصراعات إيديولوجية ومحاولات انقلابية، ما دفع الدولة إلى تبني مقاربات أمنية صارمة، نتج عنها اعتقال العديد من المعارضين والنشطاء والمثقفين، أحياناً دون محاكمات عادلة أو توثيق قانوني، ولُجئ في بعض الحالات إلى الاعتقال السري أو الاختفاء القسري.
غير أنَّ المنحنى بدأ يتغيّر مع مطلع الألفية، وتحديداً بعد تأسيس هيئة الإنصاف والمصالحة سنة 2004، حيث انخرط المغرب في مراجعة شاملة لتلك المرحلة، معترفاً بانتهاكات حقوق الإنسان ومقدّماً تعويضات للضحايا. كان هذا التحول يرمي إلى تعزيز دولة القانون وتحديث المنظومتين الأمنية والقضائية. ويُفترض اليوم أنَّ عمليات الاعتقال تتمّ بموجب إذن قضائي، وتحت رقابة النيابة العامة، مع ضمان حقوق المعتقل في الدفاع والمعاملة الكريمة. وعلى الرغم من هذا التطور، لا تزال بعض المنظمات الحقوقية تُثير قضايا تتعلق بالاعتقال التعسفي أو سوء المعاملة.
لكنّ المتابع لملامح الاعتقالات الحالية، التي تطال جيل “Z” سواء على الأرض أو عبر شبكات التواصل الاجتماعي، يلحظ أربع خصائص جديدة تشكّل في مجملها استراتيجية أمنية مغايرة:
أولاً: “الاعتقالات الكيوت”.
إنَّ ما يمكن تسميته بـ الاعتقالات الكيوت” يمثّل مفارقة عميقة بين الطبيعة القسرية والجديّة لعملية الاعتقال من جهة، وبين اللغة الناعمة والمُخفّفة التي يتمّ تسويقها في الإعلام ومنصات التواصل. هذا الخطاب الحديث يعمل على تحويل صورة الجهاز الأمنيّ من قوة قمعية صارمة إلى جهة ودودة، إنسانية، ومحبوبة، هدفها الأساسي هو تقليل حدة الخوف أو المقاومة المجتمعية تجاه ممارساته القسرية.
هذه العملية التواصلية هي ثمرة تحوّل استراتيجيّ في الخطاب الأمني والسياسي، حيث تتحول فيه “السلطة الأمنية” إلى كيان يسعى إلى القرب من المواطن العادي، ضمن مفهوم “الأمن المواطن” أو “الأمن الخدمي”. ويتمّ في هذا السياق تسويق الاعتقال وتدابير حفظ النظام باعتبارها “إجراءات احترازية” ضرورية لحماية المجتمع، وليست عقوبات أو سلوكاً انتقامياً. إنها تُقدَّم كـخدمة عمومية تضمن حماية المصلحة العامة.
في ظلّ هذا الخطاب، يُتاح المجال لتشكيل صورة رجال الأمن بوصفهم “أبطال شعبيين”، يظهرون في مسلسلات وحملات تواصلية وإعلام رسميّ بطريقة إنسانية وتضامنية. هذا التقديم يُشجّع الجمهور على التماهي مع صورة واقعية تروّج لولاء ومحبة رجال الأمن في قوالب بطولية.
إنَّ هذه اللغة الناعمة تنزع العنف من صورته الواقعية، وتجعل «الاعتقال» أكثر قابلية للاستهلاك الجماهيري دون أن تفقد فعاليته القسرية. إنه إعادة تدوير للعنف ليُنتج شكلاً يسهل قبوله نفسياً وثقافياً من خلال التهوين من وقعه القاسي. ويُستخدم تلطيف الخطاب كآلية لإعادة إنتاج العنف ليصبح ضمن نطاق ما يُمكن هضمه من قبل المجتمع، وليس كطاقة مقاومة أو خطر أمامه.
هذا التحوّل الخطابي يعكس استراتيجية تستهدف التخفيف من حدة السيطرة الظاهرة للسلطة على الأفراد، لتبدو كشريك في حفظ السلام الاجتماعي بدلاً من كونها سلطة قسرية تفرض سيطرتها بالقوة. هذا التقارب استراتيجيّ في زمن نشوء الحركات الاحتجاجية، إذ يسعى لتقليل الشعور بالفصل بين أجهزة الأمن والمجتمع، ويمنح المواطنين انطباعاً بأنّ أمنهم أولوية عُليا تُدار بحس إنساني وشفافية. باختصار، “الاعتقالات الكيوت” هي استراتيجية خطابية تُسَوِّق قوة قسرية ضمن إطار إنساني، وتحوّل منطق الأمن من فرض الانضباط بالقوة إلى خدمة عمومية، مما يُسهل على الدولة بناء شرعيتها المجتمعية في خضم التوترات الراهنة.
ثانياً: الاعتقال أمام عدسات الكاميرات:
تُسلِّط عمليات الاعتقال التي تتمّ أمام عدسات الكاميرات الضوء على تفاصيل مثيرة للانتباه والجدل. إنّ حجم الكاميرات الضخم الذي يلتقط لحظة التوقيف يوحي بأنّ المشهد هو جزء من عرض متعمَّد لتوثيق كل لحظة، مما يجعله أشبه بمسرحية تُعرض أمام الجمهور. فالحوار الذي تتبعه الكاميرات بين رجل الأمن والشاب المعتقل يخلق تفاعلاً بصرياً، تظهر فيه أحياناً مواقف مضحكة أو مثيرة للاستغراب، من قبيل محاولات التأنيب أو الردود غير المتوقعة.
من الجدير بالذكر أنَّ مشاهد اعتقال النساء تتمّ على يد عناصر نسائية من الشرطة، في محاولة واضحة لاحترام الكرامة الإنسانية للمعتقلات. وكأنَّ الهدف هو التخفيف من وقع الاعتقال وتجنيبهن أي إحراج أو انتهاك، مما يجعل هذا الإجراء يبدو مواجهة إنسانية تُراعي الجانب النفسي والاجتماعي. على الرغم من وجود استفزازات لفظية من بعض المتظاهرين تجاه رجال الأمن. ويُلاحظ أنَّ رجال الأمن والقوات المساعدة يركزون على مطاردة وتفريق من يرغب في الاستمرار في التظاهر المخالف للقانون. كما يَنصبّ التركيز على اعتقال أصحاب السلوكيات المعروفة بالتعنت أو من يعتقد الأمن أنهم يشكلون رأس الحربة في الحركات الاحتجاجية.
وبالتالي، فإنَّ مشهد الاعتقالات أمام الكاميرات لا يقتصر على كونه مجرّد تنفيذ للقانون، بل يتحول إلى عرض إعلامي له بُعد تحكمي ورقابي. إنه محاولة لرسم صورة معينة عن العملية الأمنية توازن بين الصرامة واحترام الكرامة، وبين القوة والإنسانية، في سبيل الرد على انتقادات المجتمع وتوجيه رسالة تهدئة في أوقات الأزمات.
ثالثاً: الاعتقال كآلية لجمع المعطيات وتحديث قواعد البيانات:
لا تُعدّ عمليات الاعتقال أثناء الاحتجاجات مجرّد إجراءات قمعية، بل هي جزء من منظومة أمنية استراتيجية تهدف إلى تحليل واقع المتظاهرين وخلفياتهم الشخصية والاجتماعية والسياسية. إنها فرصة استخباراتية لاستقصاء معطيات دقيقة، تسمح للدولة بتحديث قواعد بياناتها حول الفاعلين المحتملين، والعمل على استباق تحركاتهم وتأثيراتهم. هذه المعطيات تُمكّن من التعرف على الأشخاص الذين قد يشكلون تهديداً للاستقرار، سواء عبر أدوارهم القيادية أو التمثيلية ضمن شبكات الاحتجاج.
يُلاحظ أنَّ القيادات القديمة في الحركات الاحتجاجية الماضية، بسبب انشغالاتهم المهنية أو الأسرية أو عامل السن، اكتفت بدور رمزي أو صوتي دون حضور ميداني فعلي. ولقد تحول هؤلاء في الغالب إلى “أبواق إعلامية أو ظواهر صوتية” لم تعد متصلة بشكل فعال بالأرض وشبكات الشباب. في المقابل، تظهر قيادات جديدة بين صفوف الشباب، يملكون الوقت والطاقات الكافية للتحرك المستمر، وهم الأكثر دافعية وحماساً للتنظيم والتعبئة.
لهذا، أصبح تحديث المعطيات الخاصة بالمتظاهرين بصفة دورية وديناميكية أمراً ضرورياً لجهاز الأمن. إذ يجب أن تأخذ هذه التحديثات في الحسبان تطور الشخصيات، التغيرات في شبكات التواصل، ودرجة التفاعل مع التحركات الأخيرة ومخططات التظاهر المستقبلية. تعمل هذه السياسة الأمنية على تتبع الكتلة البشرية الناشطة وفق منهجية متطورة تُستثمر فيها كل البيانات (الشخصية، الاجتماعية، الاقتصادية، والسياسية)، لتمييز القادر على تأجيج الغضب وتحريك الشارع.
في هذا السياق، تُعدّ المحاضر التي تُحرَّر مع الموقوفين من بين الآليات الأساسية. فالغالبية الساحقة ممن يُعتقلون يُفرج عنهم بعد الاستنطاق وتحرير المحاضر، إما لغياب أدلة كافية أو لأنَّ أفعالهم لا تصل إلى مستوى الخطورة القانونية التي تستوجب المتابعة القضائية. بينما تُحال القلة القليلة التي يُشتبه في ارتكابها جنحاً أو جنايات على النيابة العامة لاتخاذ القرار بشأن مصيرها القانوني. هذا التمييز القانوني يعكس درجة من المرونة في التعامل مع الاحتجاجات، ويبرز حاجة الدولة إلى ضبط الحراك الاجتماعي عبر أساليب علمية مدروسة. ومن هنا، يكتسب جمع المعطيات من خلال الاعتقالات أهمية استراتيجية بالغة، فهي ليست مجرّد إجراء أمني آنّي، بل عملية مستمرة لدراسة المشهد الاحتجاجي وتحليل أدوار الفعالين. بعبارة أخرى، تتجلّى وظيفة الاعتقال في هذا الإطار كـأداة استخباراتية سيكولوجية واجتماعية وقانونية، تُمكّن الدولة من إعداد ردود فعل مدروسة ترتقي إلى مستوى التحديات الراهنة والمستقبلية.
رابعاً: الاعتقال كمدخل لفتح قنوات التفاوض الأولية:
يمكن قراءة عمليات الاعتقال التي تحدث أثناء الاحتجاجات كذلك كـفرصة استراتيجية مهمة لفتح قنوات تفاوض أولية بين السلطات والمتظاهرين. فالاعتقال ليس إجراءً أمنياً بحتاً فحسب، بل يمكن أن يكون آلية للاستماع إلى أصوات المحتجين عبر طرح أسئلة دقيقة ومباشرة، تهدف إلى فهم مطالبهم الحقيقية وجمعها بطريقة منظمة تسمح بمناقشة الحلول المناسبة.
توفر هذه العملية فرصة ثمينة للاطلاع عن قرب على توجهات واحتياجات المعتقلين، وتساعد على الوقوف على النقاط التي يمكن أن تكون مدخلاً لإجراءات تفاوضية بناءة. من خلال الحوار والاحتكاك المباشر، يمكن للسلطات أن تعرف مطالب الحراك الاجتماعي والبحث سوية عن سبل لتحقيقها عملياً ضمن الأطر القانونية والسياسية المتاحة.
بالإضافة إلى ذلك، تُفتح أمام الطرفين – المتظاهرين والسلطات – مجال تبادل وسائل الضغط بطريقة متوازنة، حيث يُستعمل الاعتقال كآلية لتقليل الحدة، أو لإعادة النظر في المواقف بما يخدم مصالح الاستقرار السياسي والاجتماعي. هذا التوازن في استخدام وسائل الضغط المتبادل يُمكن أن يخلق بيئة تفاوضية أكثر واقعية وفعالية، بعيداً عن التصعيد والحسم الأحادي.
إنَّ تجربة المتظاهرين السابقة، كما في حركة 20 فبراير، تُعدّ نموذجاً على أنَّ الاحتجاجات يمكن أن تسفر عن نتائج وإصلاحات دستورية ومؤسساتية لها آثار مستمرة. وتُشكل هذه التجربة منطلقاً لفهم كيف يمكن للاستماع إلى المطالب والحوار أن يؤدي إلى حلول ذات تأثير فعلي وملموس.
غير أنَّ نجاح هذه العملية يبقى مشروطاً بعوامل تنظيمية وسياسية دقيقة، ويرتبط بقدرة “الحمائم” من الجانب المتفاوض على أخذ زمام المبادرة في إدارة الحوار بواقعية واتزان، مع تراجع دور “الصقور” الذين يميلون إلى التصعيد. وبذلك يتحقق النجاح عندما تهيمن روح الاعتدال والمرونة على الميدان السياسي.
بهذا المعنى، يصبح الاعتقال ليس نهاية لقضية أو قراراً بالعزل، وإنما نقطة انطلاق لتقريب وجهات النظر عبر وسائل تواصل حيوية تهدف إلى التوصل إلى حلول مشتركة، تحفظ حق التعبير الاجتماعي وتحمي الاستقرار الوطني. إنَّ تعميق هذه الرؤية بأنَّ الاعتقال يمكن أن يكون أداة للحوار والتفاهم هو ما يعزز فرص بناء مستقبل أكثر توازناً بين السلطة والمجتمع، ويُجنّب البلاد الانزلاق إلى منطق الصراع الحاد.
وفي الختام، يفتح الاعتقال في هذا السياق أفقاً جديداً لفهم الاحتجاجات ليس فقط كأعمال مواجهة، وإنما كبداية لمرحلة تفاوضية مدروسة، تعكس نضجاً في إدارة الأزمات السياسية وتحقيقاً مشتركاً للتوافق والصلح الاجتماعي. وإنَّ المتأمّل في سياقات التوقيف والاعتقال، التي باتت تلوح في أفق الحركات الاحتجاجية المعاصرة، يجد نفسه أمام تحوّلٍ لافتٍ في الأداء الأمنيّ والخطاب المصاحب له، خصوصاً ما يتعلق بـجيل “ز” الذي يشهد له الميدان والمنصات الرقمية بحضور متجدّد. إنها ليست مجرّد إجراءات قسرية روتينية، بل هي استراتيجيات متعددة الأبعاد، تسعى إلى المواءمة بين حماية النظام العام ومقتضيات “الأمن المواطن”، في محاولة دؤوبة لإعادة بناء الشرعية المجتمعية للسلطة في زمنٍ تتسارع فيه وتيرة التوترات الاجتماعية والسياسية.
اترك تعليقاً