هل يتجه النظام الدولي إلى عالم متعدد الأقطاب؟

يتميز القرن الواحد والعشرين بتدافع غير مسبوق بين القوى العالمية التقليدية التي تربعت على النظام الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، والقوى الصاعدة التي تعمل جاهدة على حلحلة القواعد التي ظلت تحكم هذا النظام.
فالقوى التقليدية التي تتجسد من جهة في الولايات المتحدة الأمريكية قائدة النظام الليبرالي والدول الغربية التي تدور في فلكها، وفي روسيا التي تعمل جاهدة على البقاء كقوة عظمى لها وزنها ولها تأثيرها في السياسة الدولية. والقوى الصاعدة التي تتجسد فيما يسمى بدول الجنوب العالمي كالصين والهند وتركيا والبرازيل وجنوب إفريقيا، التي شكلت منصات ومنظمات للتنسيق والتعاون بعيدا عن المنظومة الغربية كمنظمة البريكس ومنظمة شنغهاي للتعاون، وتعمل على خلق محور للضغط والتعاون للتخفيف من الهيمنة التي تحاول فرضها الولايات المتحدة الأمريكية على الجميع.
وتستغل القوى الصاعدة الفجوة التي أحدثها ترامب في العلاقات الدولية لمحاولة الاستفادة من حالة الا يقين والاضطراب التي يعرفها النظام الدولي، حيث برزت قوى جديدة تعمل على الحد من هيمنة الغرب على السياسية الدولية وعلى النظام الدولي والنظرة الأحادية الجانب. مستفيدة من
تعارض مصالح القوى الكبرى وصراعها على النفوذ والتموقع في الخريطة الجيوسياسية التي بدأت تتشكل منذ العشرية الثانية من القرن الواحد والعشرين.
ويعتبر الدكتور روبرت موغا مستشار منظمة الأمم المتحدة، أن تصاعد عدم الاستقرار والصراع يرجع إلى أن النظام الدولي يمر بمرحلة انتقالية عصيبة، حيث تتحول الشؤون الدولية من عالم أحادي القطبية تهيمن عليه الولايات المتحدة الأمريكية إلى نظام متعدد الأقطاب، حيث تتوزع القوة بشكل أكبر بين الدول والشركات والجهات الفاعلة غير الحكومية. وبينما لا تزال الولايات المتحدة الأمريكية القوة العسكرية المهيمنة، فإن النفوذ السياسي والاقتصادي والتكنولوجي ينتقل شرقا إلى دول مثل الصين والهند.
ويعتبر جوزيف ناي في كتابه” مفارقة القوة الأمريكية” أنه من الصعب تدريجيا على دولة واحدة أن تهيمن على بقية المجتمع الدولي، حيث أصبح توزيع القوة اليوم بين الدول في نمط يشبه لعبة الشطرنج المعقدة ثلاثية الأبعاد: أحد هذه الأبعاد هو القوة العسكرية، حيث تتمتع الولايات المتحدة بميزة لا مثيل لها، وبالتالي يكون توزيع القوة أحادي القطبية، البعد الثاني هو الاقتصادي، حيث يتم توزيع القوة بين الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا واليابان بشكل أكثر مساواة، البعد الثالث هو العلاقات عبر وطنية حيث تكون القوة موزعة على نطاق واسع وخارج سيطرة الحكومة بشكل أساسي.
هذا الواقع الجديد الذي بدأ في التشكل والذي تتوزع فيه القوة بشكل متفاوت بين القوى الدولية التقليدية والقوى الصاعدة، دفع القيادات السياسية العالمية إلى الإقرار إلى أن النظام الدولي يتجه نحو التعددية القطبية.
فرئيس المجلس الأوروبي اعتبر أن الاتحاد الأوروبي يسعى جاهدا إلى عالم متعدد الأقطاب، والرئيس الفرنسي ماكرون يؤكد إن العالم يمر بفترة تحول عالمي، ولم يعد العالم ثنائي القطب، بل عالما متعدد الأقطاب. والمستشار الألماني يصرح أنه مقتنع تماما أنه سيتبلور عالم متعدد الأقطاب، وفي المستقبل لن يكون هناك كتلتان، بل عدد من الدول المؤثرة في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، ويجب أن يكون هذا العالم متعدد الأطراف حتى يتمكن أكبر عدد من الدول من التعاون مع بعضها.
الدبلوماسي الإيطالي السابق ماركو كارنيلوس يقول:” يبدوا أن نظاما عالميا متعدد الأقطاب ومتنوعا ثقافيا بشكل متزايد بدأ يظهر أخيرا، وهي عملية لا يستطيع أحدا وقفها، وأن نهوض الصين وتقدم روسيا يعجلان بعملية التحول”
الرئيس الصيني أكد في قمة شنغهاي 2025، أنه يجب أن تستمر منظمة شنغهاي للتعاون في معارضة الهيمنة وسياسات القوة بشكل لا لبس فيه، وممارسة التعددية القطبية، والوقوف كركيزة أساسية في تعزيز عالم متعدد الأقطاب وديمقراطية أكبر في العلاقات الدولية.
ودعا الرئيس الروسي فلادمير بوتين من منصة شنغهاي إلى تعددية حقيقية لوضع أسس نظام جديد للاستقرار والأمن في أوراسيا، هذا النظام الأمني على عكس النموذجين الأوروبي المركزي والأوربي الأطلسي سيكون متوازنا حقا ولن يسمح لأي دولة بضمان أمنها على حساب الآخرين.
مقابل هذا الخطاب السياسي الداعي لعالم متعدد الأقطاب، يخرج الرئيس الأمريكي ترامب بخطاب يعكس السياسة الأمريكية على المستوى الدولي، وبشعارات لتحافظ الولايات المتحدة الأمريكية على قيادتها للعالم، حيث قام بإحياء عدد من السياسات والشعارات التي قامت عليها قوة أمريكا ونفوذها، كالسلام من خلال القوة، وأمريكا أولا، واجعل أمريكا مرة أخرى عظيمة.
وتطبقا لهذه الشعارات والمبادئ اتخذ الرئيس الأمريكي مجموعة من الأوامر التنفيذية، جزء منها يتعلق بالانسحاب من عدد من المنظمات الدولية وإنهاء تمويلها ومراجعة دعمها لجميع المنظمات الدولية. والجزء الثاني من هذه الأوامر يتعلق باستعمال سلاح الرسوم الجمركية في السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية، من أجل تسخير المنافع التجارة الدولية وعائدات الاقتصاد العالمي بشكل يخدم ويعزز القوة الأمريكية بعدما بدأت تميل إلى الشرق وتستفيد منها الدول الأخرى أكثر من الولايات المتحدة الأمريكية.
فهذه الغاية كانت ستكون منتجة لو أن الولايات المتحدة الأمريكية ظلت هي الفاعل الوحيد في السياسة الدولية والطرف المهيمن في الشؤون العالمية، بل أن الرسوم الجمركية التي فرضت على الصين وعلى الهند وباقي دول العالم خلفت ردود فعل ومعاملة بالمثل، كما هو الشأن بالنسبة للصين، وتبرم من طرف الهند وميلها إلى التعاون مع روسيا والصين ودول الشرق العالمي من خلال حضورها قمة شنغهاي رغم الخلافات الحدودية القائمة بينها وبين الصين الشعبية.
هل يتجه العالم فعلا إلى عالم متعدد الأقطاب
الجواب ليس دائما واحدا، فمدير المعهد الألماني للشؤون الأمنية ستيفان ماير يرى أن الجدل يبدأ حول النظام الذي يتجه إليه العالم والنظام الذي ينبغي أن يتجه إليه، والترويج لعالم متعدد الأقطاب في الخطاب السياسي للقيادات السياسية، ينطلق دائما من تقييم الواقع السياسي الدولي ومن مؤشرات التحول الذي تعرفه بنية النظام الدولي، وكيفية الاستفادة من هذا التحول الذي يتجه إلى التعددية القطبية.
فرؤساء دول الاتحاد الأوروبي حينما يتحدثون عن التعددية القطبية خاصة فرنسا وألمانيا فهم يدافعون على أن الاتحاد الأوربي يشكل لوحده قطبا قائما بذاته، خاصة بعد السياسة الخارجية الموحدة للاتحاد من الحرب الروسية الأوكرانية.
وروسيا تريد أن تستفيد من هذا التحول لتشكل قطبا قائما بذاته أمام تصاعد قوي للصين الشعبية التي تشكل مع الولايات المتحدة الأمريكية الثنائية القطبية. وأن الصين وروسيا تريان في التعددية القطبية وسيلة لتقليص النفوذ الأمريكي وتعزيز مكانتهما في الساحة الدولية.
فالرئيس بوتين في قمة منظمة شنغهاي للتعاون لعام 2024 في أستانا قال: بأن النموذج الأوروبي الأطلسي التقليدي مُوجّه بوضوح نحو “مزايا أحادية الجانب للدول”، من جهته اعتبر الرئيس الصيني أثناء حفل الاستقبال الذي أقامه على شرف رؤساء وحكومات الدول المشاركة في قمة شنغهاي 2025: في الوقت الحاضر، يتسارع التحول الحاسم للقرن في جميع أنحاء العالم، مع تزايد ملحوظ في عوامل عدم الاستقرار وعدم اليقين وعدم القدرة على التنبؤ. وبالتالي، تتحمل منظمة شنغهاي للتعاون مسؤولية أكبر في الحفاظ على السلام والاستقرار الإقليميين، وتعزيز التنمية والازدهار لجميع الدول.
والهند حسب جاكوب الخبير الأمني ومؤسس مركز الأبحاث الهندي، تستغل الفراغ الناجم عن حالة عدم اليقين الجيوسياسي حتى وإن كان ذلك يسبب قلقا في أوربا، فعنما لا تتفق أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية يتاح المجال لأصوات جديدة، وتملأ الهند هذا الفراغ بشكل متزايد بأفكارها ومصالحها الخاصة.
كما اعتبر المحلل بريال سينغ من معهد الدراسات الاستراتيجية بجنوب إفريقيا، أن الرابط الوحيد بين كل هذه الدول هو الرغبة المشتركة في تحدي الهيمنة الغربية، وخاصة الولايات المتحدة. فالولايات المتحدة الأمريكية تستعمل مختلف أوراق الضغط لضمان انحياز واصطفاف باقي العالم لأطروحاتها وسياستها دون مراعاة مصالح باقي الدول خاصة دول الجنوب العالمي.
حيث يقول السيد دانييل سيرجو أستاذ التاريخ الأمريكي والمواطنة الأمريكية بجامعة بوركلي بكاليفورنيا، أنه على مدى ربع قرن بعد عام 1945، لعبت الولايات المتحدة الأمريكية في الشؤون الدولية دورا يشبه دور ” الرجل الكبير” في مجتمع مجزأ، مارست واشنطن الإقناع والإكراه، والمحسوبيات وموزعة الهبات للحفاظ على تحالف الدول القومية المناهض للشيوعية.
وهي الوسيلة التي ظلت تستعملها الولايات المتحدة الأمريكية في علاقاتها الخارجية مع دول الجنوب العالمي، خاصة في المناسبات التي تتطلب اتخاذ مواقف معينة، فقد استعملت الرسوم الجمركية ضد الهند لإرغامها على التراجع عن شراء البترول الروسي، كما أن وزيرة خارجية جنوب إفريقيا ناليدي باندور عندما زار وزير خارجية الولايات المتحدة ألأمريكية أنتوني بلينكن جنوب إفريقيا قالت” لقد سئمت من ترهيب السياسيين الغربيين” عندما أفهمت بأنه ستكون هناك عواقب سياسية واقتصادية إذا لم تدين جنوب إفريقيا حرب روسيا العدوانية على أوكرانيا.
إن مواجهة القوى الصاعدة للقوة المهيمنة على النظام الدولي هو مؤشر على أننا بصدد تحول في بنية هذا النظام، الذي أصبحت فيه قوى صاعدة تؤثر في الشؤون الدولية والعالمية.
تقول الباحثة إيمان شفورد عضوة مركز ستيمنسون في برنامج إعادة تصور الاستراتيجية الأمريكية الكبرى، أننا ندخل فترة من التعددية القطبية غير المتوازنة، وهي بيئة دولية تتمتع فيها قوتان رئيسيتان- الولايات المتحدة الأمريكية والصين- بالتفوق، ولكن قوى أخرى من الدرجة الثانية- الهند، اليابان، والمملكة المتحدة، وألمانيا والهند وتركيا وفرنسا- هي أيضا ضمن اللاعبين المهمين
ويزعم البعض أن القول بأن عالم اليوم أصبح قريبا من التعددية القطبية ليس أكثر من مجرد أسطورة. ولكي يكون العالم متعدد الأقطاب، لا بد من وجود ثلاث قوى عظمى أو أكثر. اليوم لا يوجد سوى دولتين بحجمهما الاقتصادي والعسكري ونفوذهما العالمي لتشكيل قطب، أما القوى العظمى الأخرى فلا تلوح في الأفق، ولن تظهر في القريب العاجل. إن مجرد وجود قوى متوسطة صاعدة ودول غير منحازة ذات تعداد سكاني كبير واقتصادات متنامية لا يجعل العالم متعدد الأقطاب.
اترك تعليقاً