شباب بلا فرص: أزمة جيل يواجه الهشاشة في صمت

لا يحتاج المرء إلى كثير من الجهد كي يستشف أن المغرب يعيش اليوم مفارقة صارخة: بلد شاب، لكن شبابه بلا أفق ! فبدل أن يشكل الشباب رصيد التنمية ووقود التغيير، يعيش جزء كبير منهم وضعية مركبة تتجاوز البطالة بمعناها التقليدي لتجسد أزمة بنيوية في مسارات الحياة والاندماج الاجتماعي. أزمة تعكس إخفاق سياسات الإدماج الاجتماعي، مما يسائل الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية للدولة.
تشكل فئة الشباب في المغرب، التي تتراوح أعمارها ما بين 15 و29 سنة، ما يقارب ثلث الساكنة. ورغم هذا الثقل الديموغرافي، يعيش جزء واسع منهم في وضعية “بدون”NEET/ (Not in Education, Employment, or Training)، أي خارج منظومة التعليم والتكوين والعمل. هذه الوضعية ليست مجرد تصنيف إحصائي، بل هي مؤشر عميق على أزمة اجتماعية واقتصادية متفاقمة، تهدد حاضر الشباب ومستقبل المجتمع برمته.
تشير معطيات المندوبية السامية للتخطيط لسنة 2022 إلى أن ما يقارب 1.5 مليون شاب مغربي يوجدون في وضعية “بدون”، أي حوالي 26% من الشباب المتراوحة أعمارهم بين 15 و24 سنة. وتشكل الفتيات النسبة الأكبر من هذه الفئة بنسبة 65,7%، فيما تصل نسبة الشباب الحضريين المحبطين إلى 25%. هذه الأرقام تؤكد أن الظاهرة لم تعد هامشية، بل أصبحت معطى بنيويا يوسع دائرة الهشاشة الاجتماعية.
أبرزت تقارير دولية ووطنية، مثل تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي (2023) والدراسة الكيفية للمرصد الوطني للتنمية البشرية (2020)، أن ظاهرة “الشباب بلا فرص” ترتبط أساسا بالانقطاع المبكر عن الدراسة، وضعف منظومة التكوين المهني، وغياب سياسات ناجعة للتشغيل. كما أن غياب بدائل حقيقية يعمق مشاعر الإقصاء والإحباط، ويدفع بعض الشباب إلى استراتيجيات بقاء محفوفة بالمخاطر، مثل الهجرة غير النظامية أو الانخراط في الاقتصاد غير المهيكل.
تظهر المراجعة النقدية للسياسات العمومية الموجهة للشباب محدودية البرامج التي طرحت خلال العقدين الأخيرين، مثل “مدرسة الفرصة الثانية” أو برامج التشغيل الذاتي من قبيل “فرصة” و”أوراش”. هذه المبادرات ظلت في معظمها دون تقييم علمي جاد، ودون تتبع لنتائجها الفعلية على إدماج الشباب اجتماعيا واقتصاديا. ما يتأكد هنا هو أن المقاربة التقنية والجزئية لا يمكن أن تستجيب لمعضلة بنيوية بهذا الحجم، بل إنها تساهم أحيانا في إعادة إنتاج نفس أنماط الهشاشة.
هؤلاء الشباب ليسوا مجرد أرقام جامدة. إنهم وجوه حقيقية لقصص الإقصاء: فتيات تزوجن مبكرا ليجدن أنفسهن بلا تعليم ولا استقلالية، شباب انقطعوا عن المدرسة لأن النظام لم يحتمل فقر أسرهم، آخرون يطاردون حلما بالهجرة عبر قوارب الموت، أو ينخرطون في اقتصاد غير مهيكل يقتات من هشاشتهم. خلف كل رقم توجد هوية معلقة بين الأمل واليأس، بين الانتماء والاغتراب.
المثير أن السياسات العمومية ظلت تتعامل مع هذه الفئة بمنطق الترقيع. برامج مثل “الفرصة الثانية”، “أوراش”، أو “فرصة” تعرض نفسها كحلول سحرية، لكنها غالبا ما تدار بمنطق بيروقراطي يفتقر إلى التقييم والجرأة في مواجهة الأسباب العميقة للأزمة. كيف يمكن لبرامج مؤقتة ومحدودة الموارد أن تواجه عقودا من الهشاشة البنيوية؟ وكيف يعقل أن يختزل مستقبل ملايين الشباب في مبادرات ظرفية تفتقد الرؤية الاستراتيجية؟
الأدبيات السوسيولوجية التي تناولت الشباب، سواء في السياق الغربي أو المغربي، تكشف عن مسار طويل من الاهتمام السوسيولوجي بهذه الفئة. ففي الغرب، شكلت أبحاث مارغريت ميد وتالكوت بارسونز وغيرهما من المؤسسين مدخلا لبلورة سوسيولوجيا للشباب كحقل قائم بذاته، مرتبط بظواهر التغير الاجتماعي والتحولات الاقتصادية. أما في المغرب، فقد ارتبط الاهتمام بقضايا الشباب منذ الدراسات الكولونيالية لروبير مونتاني وأندري آدم، وأبحاث بول باسكون والمكي بن طاهر، وأعمال باحثين معاصرين مثل مونية بناني شرايبي وغيرهم. هذه الأدبيات أبرزت أن الشباب ليسوا كتلة متجانسة، بل هم فئة اجتماعية مركبة تتحدد أوضاعها تبعا للتفاوتات المجالية والتعليمية والاقتصادية.
تعلمنا السوسيولوجيا أن البطالة ليست فقط غياب عمل، بل حالة اجتماعية شاملة تعيد تشكيل الهوية والمسار الحياتي. فحين يفقد الشباب الثقة في المدرسة، وفي سوق الشغل، وفي المؤسسات السياسية، فإننا لا نكون أمام أزمة تشغيل فحسب، بل أمام أزمة عقد اجتماعي. هنا تكمن خطورة الظاهرة: إنها ليست مسألة تقنية تحل بآلاف المناصب المالية، بل سؤال وجودي حول مكانة الشباب في مشروع المجتمع المغربي.
قد يكون من السهل إلقاء اللوم على “الكسل”، أو على “ثقافة الانتظار” كما يحب بعض الخطاب الرسمي أن يفعل. لكن الحقيقة أعمق وأكثر إزعاجا: إن الشباب بلا فرص هم المنتوج الطبيعي لبنية اجتماعية غير عادلة، لاقتصاد ريعي يخلق ثروات دون أن يوزعها بعدل، ولنظام تعليمي يفرز الفشل أكثر مما يخلق الكفاءات.
من هذا المنظور، فإن أزمة الشباب بلا فرص ليست أزمة شباب بقدر ما هي أزمة سياسات عمومية. وإذا لم تتحول إلى أولوية وطنية عاجلة، فإن كلفتها ستكون مضاعفة: مزيد من العنف الرمزي والمادي، هجرة العقول والأجساد، وتآكل الثقة في المستقبل.
إن أزمة الشباب “بدون” في المغرب تطرح اليوم سؤال العقد الاجتماعي برمته: كيف يمكن تحويل هذا الثقل الديموغرافي إلى مصدر للتنمية بدل أن يكون عبئا اجتماعيا؟ الجواب لا يكمن في حلول تقنية معزولة، بل في إعادة صياغة سياسات التعليم والتكوين والتشغيل على نحو يضمن العدالة المجالية والاجتماعية، ويعيد للشباب موقعهم كمحرك للتغير الاجتماعي. إنهم ليسوا جيلا “خارج اللعبة”، بل جيلا ينتظر أن يمنح فرصة حقيقية للانخراط في بناء المستقبل، بدل أن يظل عالقا في دائرة اللامرئي الاجتماعي.
شباب المغرب ليسوا مجرد أرقام في نشرات إحصائية، بل هم مستقبل بلد بأكمله. وأزمة “الشباب بلا فرص” ليست فقط معضلة اقتصادية، بل هي تحد اجتماعي وسياسي وأخلاقي. والمطلوب اليوم هو تحويل هذا الجيل من فئة “بدون” إلى جيل “مع”: مع تعليم جيد، مع شغل لائق، ومع أمل في مستقبل أفضل. إنها لحظة حاسمة تفرض على صانعي القرار أن يعيدوا النظر في البديهيات: الشباب ليسوا “مشكلة” ينبغي تدبيرها، بل طاقة كامنة ينبغي استثمارها. وإلا فإن الوطن سيبقى يحرق أثمن ما لديه: أجياله القادمة.
اترك تعليقاً