منتدى العمق

الحركات الاجتماعية الجديدة والإعلام الرقمي.. فاعلون جدد في صنع القرار العمومي بالمغرب

عرف المشهد السياسي المغربي خلال السنوات الأخيرة تحولات عميقة أعادت طرح أسئلة جوهرية حول موقع الأحزاب السياسية وأدوار النخب في قيادة المجتمع. فمن المفترض أن تضطلع الأحزاب بدور محوري في تأطير المواطنين وصياغة برامج تعكس حاجياتهم وتطلعاتهم، وأن تكون فضاءً لتكوين كفاءات سياسية قادرة على حمل قضايا الشارع والدفاع عنها داخل المؤسسات. غير أن الواقع يكشف عن تراجع حاد في هذا الدور، حيث انحصر عمل الكثير من الأحزاب في منطق انتخابي ضيق يعتمد على الحملات الظرفية والتحالفات الهشة، أكثر مما يستند إلى رؤية استراتيجية أو مشروع مجتمعي متكامل. وقد انعكس هذا الضعف أيضًا على صورة النخب الحزبية، التي فقدت جزءًا كبيرًا من مشروعيتها أمام الرأي العام، إذ لم تعد قادرة على لعب دور الوسيط بين المجتمع والدولة، ولا على تجديد خطابها بما يتلاءم مع التحولات الاجتماعية والثقافية والسياسية المتسارعة.

في المقابل، برزت الحركات الاجتماعية الجديدة كفاعل مؤثر في إعادة تشكيل المجال العمومي. هذه الحركات، التي وجدت في الفضاء الرقمي أرضًا خصبة للتعبئة والتنسيق، كسرت احتكار الأحزاب والنقابات التقليدية لقنوات التعبير السياسي، ونجحت في بلورة خطاب بديل يستجيب بشكل مباشر لانتظارات المواطنين. وتظهر تجربة المقاطعة الشعبية لشركات كبرى سنة 2018 أن قوة الضغط لم تعد حكرًا على الفاعلين السياسيين التقليديين، بل يمكن أن تنشأ من رحم المجتمع الافتراضي وتترجم إلى فعل اجتماعي واقتصادي مؤثر، مما أعاد تعريف مفهوم المشاركة السياسية ومنح المواطن العادي إحساسًا بامتلاك أداة ضغط فعلية خارج المؤسسات.

ولم يكن هذا التحول ليكتمل دون دور الإعلام، الذي ساهم في تشكيل الصورة وتعزيز النقاش العمومي. ففي الوقت الذي واصل جزء من الإعلام التقليدي نهجه القائم على التغطية السطحية أو الاصطفاف مع الخطاب الرسمي، فتحت المنصات الرقمية مجالًا واسعًا أمام أصوات جديدة للتعبير والمساءلة. وقد ساهم الإعلام الرقمي وشبكات التواصل الاجتماعي في تقويض مركزية الخطاب الأحادي، ومنح المواطن إمكانية متابعة النقاش العام والمشاركة فيه، وهو ما عزز بدوره من قوة الحركات الاجتماعية الناشئة.

ومع اقتراب الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، يزداد النقاش حول موقع الأحزاب السياسية وصراعها على المواقع، في وقت لم تعد فيه صناديق الاقتراع وحدها محددًا لمستقبل المشهد السياسي. فالمواطن اليوم لم يعد يكتفي بمتابعة الوعود والشعارات التي تطرحها الأحزاب خلال فترة الانتخابات، بل يقيس جدية هذه الفاعلين من خلال تفاعلهم مع قضاياه اليومية وقدرتهم على الاستجابة السريعة لمطالبه. ويكشف الصراع الانتخابي بين الأحزاب عن اختلالات عميقة في بنيتها الداخلية، حيث يُستحضر البعد التكتيكي أكثر من البعد البرنامجي، وتُعطى الأولوية للتحالفات السياسية الظرفية بدل الانشغال ببناء رؤية استراتيجية طويلة المدى. وهذا الواقع يفسح المجال أمام الحركات الاجتماعية الرقمية لتفرض أجندتها وتؤثر على اختيارات الناخبين وعلى مواقف الفاعلين السياسيين.

إن القراءة المتأنية للمشهد السياسي المغربي اليوم تبرز أن مستقبل السياسة لن يُقاس فقط بمدى نجاح الأحزاب في صناديق الاقتراع ، بل بقدرتها على إعادة بناء الثقة المفقودة في وعي الشباب واستيعاب الديناميات الاجتماعية الجديدة. وفي هذا السياق، يظل الإعلام شريكًا حاسمًا في بلورة وعي جماعي نقدي، قادر على ربط المواطن بقضاياه الأساسية، ودفع الأحزاب والنخب نحو أداء أكثر مسؤولية وفاعلية. وبقدر ما تنجح هذه المكونات الثلاثة – الأحزاب، النخب، والإعلام – في التفاعل مع الحركات الاجتماعية الجديدة، بقدر ما سيكون المشهد السياسي المغربي مؤهلاً لانتقال نوعي يحقق التوازن بين المؤسسات الرسمية وتعبيرات المجتمع، ويمنح للعملية الانتخابية المقبلة معناها الحقيقي كرهان لبناء الثقة وتجديد العقد السياسي بين الدولة والمواطنين.

وإن هذه التحولات تضع المغرب أمام مفترق طرق سياسي واجتماعي معقد، حيث يواجه المشهد الحزبي أزمة في تجديد النخب والقيادات القادرة على التفاعل مع متغيرات العصر، في حين تصاعدت الحركات الاجتماعية الجديدة التي تعكس مطالب اقتصادية واجتماعية حقيقية. ويبرز دور الإعلام الرقمي والدولة في إعادة تشكيل العلاقة بين المواطن والمؤسسات، وسط تحديات تمثيلية واضحة، إذ بلغت نسبة المشاركة في الانتخابات التشريعية 2021 نحو 50.35% من الناخبين المسجلين، ما يعكس عزوفًا نسبيًا لدى الفئات المهمشة والأقليات. وهذا الواقع يسلط الضوء على الحاجة لإصلاحات سياسية ومؤسسية تشمل تطوير كفاءات النخب السياسية وربطها بالتعليم وصناعة القرار العمومي، لضمان تمثيل أكثر عدالة وفاعلية وتقليص الفجوة بين الأحزاب والمجتمع وتعزيز الثقة بالديمقراطية التمثيلية، وهو ما دفع المغرب إلى الانتقال من الديمقراطية التمثيلية إلى الديمقراطية التشاركية، كما نص عليه دستور 2011، الذي أعطى مساحة أوسع لمشاركة المواطنين والحركات الاجتماعية في صناعة القرار العمومي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *