وجهة نظر

الحرب القادمة: المعركة على المعنى في عصر المحتوى المفبرك

في العقود الأخيرة، شهدت الصراعات الدولية تحولات جوهرية. لم تعد الحرب تُقاس بعدد الدبابات والطائرات، بل انتقلت إلى فضاءات غير مرئية: عقول الجماهير وشاشات الهواتف المحمولة. هنا، تُدار “الحرب المعرفية” بواسطة محتوى رقمي سريع الانتشار، حسابات مزيفة، وفيديوهات مُعدّة بعناية لتوجيه الرأي العام، واستهداف الانتباه والوعي. هذا التحول البنيوي يجعل السيطرة على المعنى هي الهدف الاستراتيجي، وليس القوة العسكرية التقليدية وحدها.

المنصات الرقمية: ساحات المعركة الحديثة

أصبحت منصات مثل X (تويتر سابقاً) وTikTok الساحات الأساسية لهذه الحرب. لكنها ليست مجرد قنوات ناقلة للمحتوى؛ فهي فاعل نشط يحدد من يرى ماذا، ومتى، وبأي ترتيب. خوارزميات هذه المنصات تولد “تحيزاً خوارزمياً” له آثار سياسية عميقة:

على X: تبرز المنصة كمنصة للنقاش السياسي المباشر، مما يسمح للحسابات المنسقة —سواء أكانت حقيقية أم مزيفة— بالوصول السريع إلى صناع القرار والجمهور الواسع.
على TikTok: تتحول الحرب إلى محتوى بصري قصير، يعتمد على آلية “For You”، التي تعزل المحتوى عن شبكة المستخدم الاجتماعية، ما يسمح للروايات البديلة بالانتشار بسرعة، خصوصاً بين الشباب الذين يشكلون النواة الأساسية للمنصة.

تشريح آلية الحرب الرقمية

هذه الحرب لا تهدف فقط إلى نشر معلومات مغلوطة، بل تستهدف البنية النفسية والاجتماعية للجمهور المستهدف. أهم عناصرها تشمل:

الحسابات المزيفة والمنتحلة للهوية: تمنح المحتوى شرعية أولية وتضلل الجمهور حول مصدر المعلومات.

المحتوى المعدّل بصرياً وصوتياً: يُصمم خصيصاً لإثارة ردود فعل عاطفية قوية، مثل الغضب أو الخوف، ودفع الجمهور للمشاركة.

التنسيق متعدد المنصات: المحتوى يُطلق على X أولاً ثم يُكرر على TikTok بشكل جذاب بصرياً لتعظيم الانتشار.
التمويه العضوي: دعم المحتوى عبر مجموعات مغلقة على تيليغرام أو مؤثرين رقميين لمنح المصداقية الظاهرية.

هذه الاستراتيجية تحول الجمهور من متلقي سلبي إلى مشارك نشط في نقل الرسائل، مما يحول الحرب الرقمية من صراع عمودي إلى صراع أفقي معقد، حيث يصبح كل مستخدم ناقلاً محتملاً للتضليل.

الجمهور المستهدف: الشباب

تستهدف الحملات الرقمية بشكل رئيسي الشباب، خصوصاً الفئة العمرية بين 16 و35 سنة. فهذه الفئة الأكثر نشاطاً على TikTok وInstagram، وأكثر عرضة للاستجابة العاطفية للمحتوى القصير والمصمم بصرياً. في المقابل، تُستخدم X للوصول إلى جمهور أوسع بما في ذلك صناع القرار والصحفيين، بينما تيليغرام يُستخدم لتوزيع محتوى مغلق وموجه بدقة.

الواقع الميداني: دروس من الحملات الأخيرة

أظهرت تحليلات معهد الآفاق الجيوسياسية أن الحملة الرقمية على المغرب في سبتمبر 2025 اعتمدت على خمس حسابات منسقة تحت هوية “الشباب المغربي”، موزعة عبر X، TikTok، إنستغرام، وتيليغرام. هذه الحملة ركزت على:

نشر محتوى يثير الانقسامات الجيلية والاجتماعية.
استغلال الخلافات الداخلية لإضعاف الثقة بالمؤسسات.
خلق حالة من الجدل الإعلامي قبل اتخاذ القرارات الدولية الحاسمة، مثل ملف الصحراء الغربية في الأمم المتحدة.
تحليل الحملة أظهر توقيتاً دقيقاً بين إنشاء الحسابات وأول منشوراتها، مع تصاعد تدريجي في قوة التأثير، واستخدام لغات متعددة (العربية، الفرنسية، الإنجليزية) لتوسيع نطاق الجمهور.

المواجهة: استراتيجيات متعددة المستويات

التصدي لهذه الحرب الرقمية يتطلب مقاربة شاملة:

رفع الوعي الرقمي: تعليم الجمهور مهارات التحقق من المحتوى، ودمج التربية الإعلامية في المناهج التعليمية.

أدوات تقنية مضادة: استخدام الذكاء الاصطناعي لتحليل الأنماط، كشف الحسابات المزيفة والمحتوى المفبرك، والتعاون السريع مع المنصات.

المناعة المؤسسية: دعم الصحافة الاستقصائية لكشف التضليل، وإعادة بناء الثقة في المؤسسات عبر الشفافية والمصداقية.

تنسيق سريع مع المنصات الرقمية: وضع بروتوكولات للإبلاغ والتحقق دون المساس بحرية التعبير.

السيناريوهات المحتملة

يمكن تصور ثلاثة سيناريوهات أساسية:

احتواء الحملة: التدخل المبكر يؤدي إلى انخفاض التأثير الرقمي، والحملة تفقد زخمها قبل أي أضرار كبيرة.

استمرار محدود: الحملة تستمر بشكل ضعيف، مع تأثير محدود على الرأي العام، لكنها لا تشكل تهديداً سياسياً مباشراً.

تصعيد نادر دولياً: توسيع الحملة لتشمل جمهوراً دولياً أو تدخل أطراف حكومية، مما يخلق أزمة معلوماتية كبيرة، وهو احتمال منخفض لكنه يجب الاستعداد له.

خلاصة:

المعركة على البوصلة الأخلاقية والمعرفية
الحرب القادمة لن تُقاس بعدد الدبابات أو الطائرات، بل بالقدرة على إدارة الانتباه وتحقيق السيطرة على المعنى. محتوى رقمي مفبرك، حسابات مزيفة، وفيديوهات معدلة بعناية ستصبح أدوات الصراع الرئيسة. القدرة على كشف التضليل، توعية الجمهور، ودعم المؤسسات الصحفية المستقلة هي العوامل الحاسمة التي تحدد قدرة المجتمعات والدول على الصمود أمام موجات التضليل المنسقة.

في النهاية، النجاح في هذه الحرب لن يعتمد فقط على امتلاك الحقيقة، بل على القدرة على إيصالها بشكل مقنع وسط ضجيج المحتوى المفبرك، وتحويل التحديات الرقمية إلى مناعة معرفية تتيح حماية المجتمع والدولة معاً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *