شرارة الأمل في دخول سياسي يبحث عن ثقة جديدة

جيل منفتح، رقمي، وواعٍ بقيم العدالة والكرامة، خرج إلى الشارع لا ليكسر الصمت فقط، بل ليعيد طرح السؤال الأكبر: كيف تستعيد السياسة المغربية معناها في زمن فقدت فيه الثقة معناها؟
شهد المغرب خلال الأسابيع الأخيرة خروج آلاف الشباب في أكثر من ثلاثين مدينة، في تظاهرات سلمية وحضارية قادها جيل جديد يُعرف بجيل Z. هذا الحراك لم يكن حدثًا عابرًا، بل تعبيرًا جماعيًا عن أزمة ثقة بنيوية يعيشها الشباب المغربي في مرحلة دقيقة تتزامن مع دخول سياسي واقتصادي واجتماعي يُفترض أن يؤسس لسنة انتخابية بامتياز. فقد حركت هذه التعبئة الميدانية والرقمية بركةً راكدةً داخل المجتمع والسياسة، وأعادت النقاش حول علاقة الدولة بالشباب وحول قدرة المؤسسات على الإصغاء والتفاعل مع جيل لا يقبل الانتظار ولا يرضى بأنصاف الحلول.
1. جيل جديد بفلسفة رقمية ومطالب كونية
جيل Z المغربي، الذي يتراوح عمره بين 13 و28 سنة، يضم أكثر من 9.6 ملايين شاب، أي ربع سكان المملكة. هو جيل وُلد في زمن الانفتاح الرقمي، وتشكّلت وعيه عبر الشبكات الاجتماعية أكثر مما تشكّل داخل المدرسة أو الحزب أو النقابة. لهذا، فإن أدواته في التعبير والتنظيم تختلف جذريًا: حركات لا مركزية، احتجاجات رقمية تتحول بسرعة إلى تعبئة ميدانية، وشعارات تولد في العالم الافتراضي لتنتقل إلى الشارع. إنه جيل يؤمن بالحرية والعدالة والكرامة كقيم مطلقة، يرفض التسويات الرمادية واللغة الخشبية التي طبعت الخطاب السياسي لعقود.
2. خلفيات اجتماعية واقتصادية متأزمة
الأرقام التي تنشرها المؤسسات الرسمية تُظهر عمق الأزمة التي يعيشها الشباب المغربي:
– معدل البطالة في صفوف الفئة العمرية 15–24 سنة تجاوز 35.8٪، ويصل إلى 21.9٪ لدى فئة 25–34 سنة.
– فئة “النييت” (NEET) — أي من لا يدرسون ولا يعملون ولا يتلقون تكوينًا — تضم حوالي 1.5 مليون شاب بين 15 و24 سنة، وتفوق 4.3 ملايين إذا شملنا الفئة حتى 34 سنة.
– 61٪ من الأسر تعتبر أن الخدمات الصحية تدهورت، و58٪ ترى أن التعليم يسير في الاتجاه نفسه.
– أكثر من 331 ألف تلميذ يغادرون المدرسة سنويًا، فيما تصل بطالة حاملي الشهادات العليا إلى 40.3٪.
هذه الأرقام ليست مجرد معطيات إحصائية، بل مؤشرات على هشاشة اجتماعية واقتصادية جعلت من الاحتجاج وسيلة للتعبير عن الإحباط وفقدان الأمل.
3. مطالب واضحة ومشروعة
لم يرفع الشباب شعارات فضفاضة، بل طالبوا بحقوق ملموسة تمسّ حياتهم اليومية:
– تعليم جيد يفتح أبواب المستقبل بدل أن يُكرّس الفشل.
– صحة عمومية تضمن الكرامة لكل مواطن.
– شغل كريم يحمي من الهشاشة ويمنح الأمل في الاستقرار.
– عدالة مجالية تكسر التفاوت بين المدن والجهات.
– محاربة الفساد والريع والمحسوبية، باعتبارها العوامل التي تنخر الثقة في الدولة ومؤسساتها.
4. بين سلمية الحراك ومسؤولية الدولة
رغم أن معظم التظاهرات اتسمت بالسلمية والتحضر، فإن بعض الانزلاقات المحدودة نحو العنف شكلت خطرًا على رمزية الحراك. وهنا تبرز مسؤولية الدولة في اعتماد حكامة أمنية متوازنة تحمي الحق في التظاهر دون المساس بالحريات. فالرهان الحقيقي ليس في كبح الغضب، بل في تأطيره ديمقراطيًا عبر تربية مدنية حقيقية تُدرّس في المدارس وتُمارس داخل المجتمع، لتُحوّل ثقافة الاحتجاج إلى ممارسة مواطنة راقية.
5. حلول عملية بلا كلفة مالية… برؤية سياسية جديدة
من بين التوصيات التي يمكن أن تُحدث أثرًا مباشرًا في استرجاع الثقة وبناء أفق مشترك بين الدولة والشباب:
فتح قنوات حوار مؤسسية ودائمة مع الشباب عبر المجالس الجهوية والمحلية، ومنحهم مقاعد فعلية في هيئات القرار. تفعيل آليات المساءلة والشفافية من خلال إرجاع قانون الإثراء غير المشروع إلى البرلمان وتفعيله بصرامة.
رفع القيود المفروضة على الجمعيات العاملة في محاربة الفساد وتوسيع فضاء المجتمع المدني.
إخراج قانون الدفع بعدم دستورية القوانين إلى حيز التنفيذ، بما يعزز دولة الحق والقانون.
مصادرة أموال المفسدين أينما كانت، حماية للمال العام واسترجاعًا لثقة المواطنين.
تجريم استعمال المال في الانتخابات وضمان شفافية العملية الانتخابية المقبلة.
إعادة الاعتبار للمدرسة العمومية كمؤسسة للتنشئة الاجتماعية والمدنية بعد أن فشلت في أداء هذا الدور، كما أظهره انخراط تلاميذ قاصرين في الاحتجاجات.
مراجعة قانون الصحافة المرتقب تمريره، بما يضمن حرية التعبير ويستجيب لمطالب الفاعلين الإعلاميين.
محاربة تضارب المصالح الحكومية وتكريس مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة
جعل التوفر على البطاقة الوطنية كافياً للمشاركة في التصويت خلال الانتخابات، وإقرار التصويت الرقمي لتوسيع المشاركة الشبابية وتسهيل العملية الديمقراطية..
هذه الإجراءات لا تتطلب كلفة مالية، بل إرادة سياسية شجاعة لإعادة ترتيب العلاقة بين الدولة والمجتمع على أسس الثقة والشفافية.
6. نحو دخول سياسي على إيقاع سرعة جيل Z
يأتي هذا الحراك في لحظة دقيقة من عمر التجربة المغربية، حيث يتهيأ البلد لدخول سياسي وانتخابي جديد. لكن أي دخول سياسي لن يكون ذا معنى إن لم يُبنَ على حوار صادق مع الجيل الجديد، وإدراك أن شرعيته ليست في الصناديق فقط، بل في القدرة على إقناع الشباب بأن المؤسسات ما زالت قادرة على تمثيلهم.
جيل Z لا ينتظر وعودًا طويلة الأمد، بل إجراءات ملموسة وسريعة تترجم إلى تحولات واقعية في التعليم، التشغيل، العدالة، ومحاربة الفساد. إنه جيل يُعيد الأمل بسرعة، كما يُطفئه بسرعة، ولذلك فإن التحدي الأكبر هو الحفاظ على جذوة الأمل مشتعلة عبر إشراكه في صناعة القرار، لا في تبرير العجز.
الاحتجاجات الشبابية الأخيرة ليست أزمة ظرفية، بل مرآة لأزمة ثقة وهيكلية في منظومة التمثيلية والسياسات العمومية. الحل لن يكون أمنيًا ولا ظرفيًا، بل سياسيًا ومؤسساتيًا يقوم على تجديد العقد الاجتماعي وبناء جسور الثقة بين الدولة والمواطن.
جيل Z المغربي، برفضه لأنصاف الحلول وبإيمانه بقيم المواطنة والعدالة، يقدم فرصة تاريخية لإعادة بناء مشروع وطني مشترك، يُعيد الاعتبار للسياسة كأداة لخدمة الصالح العام لا كمنصة للوعود الفارغة.
ففي زمن السرعة الرقمية، لم يعد أمام الفاعلين السياسيين سوى خيار واحد: الإصغاء بصدق، التحرك بسرعة، والعمل بشجاعة لاستعادة ثقة جيل يرفض الانتظار… ويُحيي الأمل من جديد.
اترك تعليقاً