وجهة نظر

جيل (Z).. البحث عن الجيل الخارق المخلص

بمجرد أن انطلقت الدعوات للاحتجاج في المغرب، حتى بدأ الجميع يتحدث عن جيل بطل خارق، غير مسبوق في تاريخ البشر، بمواصفات استثنائية، لم يعرفها الناس في تاريخهم الطويل… جيل جرئ، مقدام، شجاع، لا يخاف، لا يخجل، لا يتردد، يبادر، يغامر، يضحي، لا يكترث للعواقب…

في وقت وجيز تم نسج الأساطير، عن صفات هذا الجيل، جيل أصلحه الله في يوم وليلة، وألبسه لباس الشجاعة، وأسبغ عليه من الحكمة والنضج وسداد الرأي، ما تحتاج معه الأجيال الأخرى، لسنوات وعقود. كان واضحا أن الذين أضفوا هذه الأوصاف على جيل لايختلف عن الأجيال التي سبقته، يبحثون فقط عن البطل الخارق المخلص، السوبيرمان، صلاح الدين، المهدي المنتظر… لكن هذه المرة ليس فردا، بل مجموعة، جيلا كاملا.

فما قصة هذا الجيل، وما قصة هذا التصنيف، ومتى ظهر، وهل هو جيل خارق، لا مثيل له في التاريخ، وما التصنيفات التي سبقته، وهل هناك تصنيفات جاءت بعده…؟

سأبدأ بآخر سؤال، المتعلق بباقي التصنيفات، وأقول نعم توجد تصنيفات أخرى قبله وبعده، تبدأ بالجيل X يليه Y ثم Z ثم الآن جيل آلفا. لكنها تصنيفات غير علمية، ولا يوجد بشأنها اتفاق، ولا علاقة لها بعلم الاجتماع.

صحيح أن علم الاجتماع يهتم بالأجيال، بل فيه مبحث خاص يسمى سوسيولوجيا الأجيال، لكن هناك اختلاف بين علماء الاجتماع، في تحديد الجيل أو تعريفه. فنجد عالم الاجتماع الألماني كارل مانهايم مثلا، يميز في دراسة نشرها سنة 1928 بعنوان (مشاكل الأجيال). بين “الجيل الزمني” (مواليد فترة زمنية معينة) و”الجيل الاجتماعي” (الذين يشتركون في تجربة تاريخية معينة).

إن “الجيل” في علم الاجتماع هو أداة تحليلية، وليس تقسيمًا جامدًا مثل “X، Y، Z”. بل إن الكثير من علماء الاجتماع يرون أن تقسيم الناس إلى “أجيال” (X، Y، Z…) فيه مبالغة وتعميم مفرط، لأنه يفترض أن مئات الملايين من البشر يتشابهون في الأفكار والقيم والسلوكيات فقط بسبب فترة ميلادهم. كما أنه لا يوجد إجماع دقيق حول السنوات الفاصلة بين الأجيال، مما يجعل التصنيف غامضًا.

وهكذا، حتى لو كان هناك تعريف لمعنى الجيل، وتحديد واضح وصارم للسنوات الفاصلة بين الأجيال، فإن جيل “إكس” مثلا في الشرق لن يشبه جيل “إكس في الغرب، ولن يشبهه في أوروبا كما لن يشبهه في إفريقيا، بل هذا الجيل نفسه، ستكون بين أفراده اختلافات جوهرية في البلد الواحد. فذكوره ليسوا كإناثه، والمنتمون لتيارات أيديولوجية مختلفة، ليسوا كغير المنتمين، والناشئون في المدن ليسوا كالناشئين في القرى، والفقراء ليسوا كالأغنياء، بل في المدينة القاطنون في الأحياء الراقية، ليسوا كالقاطنين في الأحياء الشعبية وأحياء الصفيح… وهكذا.

لايمكن علميا إذن، الجزم بزمن فاصل بين الأجيال، أو تحديد الفترة الزمنية للجيل، ولا الحديث عن تشابه في الصفات بشكل واضح وقاطع، بين أفراد مجموعة، فقط لأنهم متقاربون في فترة ميلادهم.

إذا كان الأمر كذلك، فمن أين جاءت هذه التصنيفات وكيف بدأت؟

أول تصنيف ظهر كان هو “إكس”، في أمريكا وكندا وبريطانيا، والغريب أنه لم يظهر في دراسات علمية اجتماعية أو ديمغرافية، وإنما ظهر في أعمال صحفية وأعمال أدبية.

فنجد المصور الصحافي البريطاني روبرت كابا يتحدث عن جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية، في كتاب أسماه (جيل X ) نشره سنة 1952. روبرت كابا المصور الصحافي العالمي، أطلق على الشباب الساخط المدمر، الذي كان يعيش في أوروبا المدمرة بسبب الحرب، تسمية جيل إكس.

ورغم أن باحثون وعلماء اجتماع من أمريكا وبريطانيا، استعملوا هذه التسمية ووظفوها بعده، إلا أن التسمية لم تنتشر وتشتهر، إلا على يد الكاتب الكندي دوغلاس كوبلاند، في كتابه الشهير (الجيل إكس: حكايات من أجل ثقافة سريعة) سنة 1991.

المفارقة أن هذا الكتاب، ما هو إلا رواية أدبية، وليست دراسة علمية أو بحثا في علم الاجتماع أو الديموغرافيا.
والمفارقة الثانية أن الجيل الذي تحدثت عنه هذه الرواية، ليس هو الجيل الذي تحدث عنه المصور الصحافي، فرغم أنهما استعملا نفس التسمية أو التصنيف “إكس” إلا أن الصحافي كان يتحدث عن الشباب بعد الحرب، أي فترة الخمسينات، أما الروائي فكان يتحدث عن الشباب الذين ولدوا تقريبًا بين 1965–1980 ووصفهم بأنهم ساخطون، ضائعون، يعيشون في ظل تغيرات اقتصادية وثقافية كبرى. جيل ولد بعد الطفرة السكانية، ويعاني من الاغتراب، ويعيش في ظل ثقافة استهلاكية متسارعة.

أصبح “جيل إكس”، بعد هذا العمل الروائي، وابتداء من منتصف التسعينات، أيقونة ورمزا وعلامة، تم توظيفها على نطاق واسع وبشكل رسمي من طرف علماء الاجتماع، لكن بشكل أكبر تم ترويجه وتثبيته واعتماده لأهداف تسويقية. ثم أصبح متداولا شعبيا بعد ذلك. بعد أن انتقل من الاستعمال الصحافي إلى الاستعمال الأدبي والفني، ثم الديمغرافي والإحصائي، ثم التسويقي والشعبي. لكن دون أي اتفاق على علميته، بل حتى على معناه. ففي الوقت الذي يقول البعض أن المقصود به هو الجيل العاشر (x)، دون أن نعرف من هي الأجيال التسعة الأخرى التي قبله.

يرى آخرون أن “إكس” علامة على الغموض والمجهول، أي الجيل الذي ليس له هوية ولا ملامح واضحة. في حين يرى آخرون أنها مجرد تسمية تسويقية وتجارية.

سيظهر بعد ذلك جيل (Y) ليصف الجيل الذي جاء بعد جيل إكس، يسمى أيضا جيل (الميلينيالز) أي جيل الألفية، أو أبناء العصر الرقمي، لأنهم نشأوا في بيئة شديدة الارتباط بالتكنولوجيا والأنترنت، وولد تقريبًا بين 1981–1995. الاسم استخدمته شركات أبحاث السوق والماركوتينغ بكثافة، لأنه كان يمثل جيل المستهلكين الشباب في التسعينيات وبداية الألفية.

بعد ذلك ظهر مصطلح جيل (Z) في التسعينيات في بعض الدراسات الديموغرافية والاجتماعية في الولايات المتحدة، استكمالًا للتسميات السابقة. لكنه شاع بشكل كبير، في وسائل الإعلام الأمريكية بعد 2005. وانتشر تدريجيا عند شركات التسويق، التي وجدت فيه أداة لفهم أنماط الاستهلاك والسلوك الاجتماعي. لذلك اشتهر أكثر من غيره من التصنيفات، لأنه ارتبط بالإعلام الأمريكي، وبالاستهلاك والإعلانات وشركات التسويق… وتحفظ على استعماله نقاد وباحثون، معتبرين التسمية تجارية أكثر منها علمية، وأشار بعضهم للاختلافات الثقافية، واعترضوا على تعميم التصنيفات الأمريكية على بقية العالم، لاختلاف السياقات وظروف التعليم والاقتصاد والسياسة والثقافة والدين…

بعد جيل “إكس”، سيقوم الباحث الأسترالي مارك ماكريندل بصياغة مصطلح جديد، هو جيل “ألفا”. وأطلقه على المواليد الذين ولدوا بعد 2010. وهم أول جيل يولد بالكامل في القرن الـ21، الجيل الأكثر ارتباطًا بالتقنيات مثل الذكاء الاصطناعي، الواقع الافتراضي… ومن الممكن أن هذه التصنيفات ستستمر بحروف الأبجدية اليونانية (…Alpha, Beta, Gamma).

بالعودة لجيل (z) هل هو فعلا كما وصفه بعض المغاربة، جيل مختلف تماما، لم يسبق له مثيل، يمتلك أدوات معرفة وتواصل، لم تكن الأجيال التي سبقته تعرفها، ولم يتوفر لها هذا التميز الذي يميزها عن الأجيال التي سبقتها؟

وهل هو جيل شجاع مقدام لايهاب شيئا، وهل هو الذي خرج للشوارع، للمطالبة بحقوقه، وتحقيق أهدافه بيده، بعد أن رأى أن الأجيال السابقة، أجيال خانعة خاضعة جبانه، لا تطالب بحقوقها، وترضى بالظلم…؟

في الحقيقة هذه مجرد مبالغات وتهويلات، ربما الدافع وراءها، هو البحث عن المخلص الخارق، الذي يأتي فجأة، ويصلح الأحوال، بطريقة غرائبية إعجازية خارقة.

وإلا فمن حيث المعرفة، أو الطفرة المعرفية، والأدوات التواصلية، فهي ليست خاصة بهذا الجيل، فقد سبقه جيل اكتشاف النار، وجيل اختراع الأدوات الحجرية، وجيل الثورة الزراعية، وجيل اختراع العجلة، وجيل الكتابة المسمارية، وجيل اكتشاف الورق، وجيل الثورة الصناعية، وجيل اختراع المحرك البخاري، وجيل اختراع المصباح الكهربائي، وجيل اختراع المطبعة، وجيل انتشار الصحافة، وجيل الإذاعة، وجيل التلفاز، وجيل الهاتف، وجيل الثورة الرقمية…

أما من حيث الشجاعة والحماس والإقدام… فكل أجيال البشرية، في كل فترات وجود الإنسان على كوكب الأرض، كانت تقوم بالانقلابات وبالحروب، وبالانتفاضات والثورات، وبالدفاع عن أرضها أو غزو أراضي الآخرين… تفعل ذلك بإقدام وحماس وشجاعة…

فالأمر ليس خاصا بهذا الجيل وحده، ولا هو استثناء في تاريخ البشرية. ولكي نبقى في السياق المغربي، فإن جيل زاي هذا، لايزيد عن جيل المقاومة في الإقدام والشجاعة، ولا يفوق جيل شهداء كوميرة، في الفورة والحماسة، ولا جيل مظاهرات واحتجاجات ومواجهات التسعينات، ولا جيل عشرين فبراير، ولا شباب الريف وجرادة وسيدي إفني…

البعض يتحدث كأن هذه الأحداث سابقة في التاريخ المغربي، لم يعرف لها المغاربة مثيلا، في حين أن التاريخ المغربي منذ الاستقلال فقط، إلى يومنا هذا. عرف عشرات التجارب المماثلة، بل والأكثر خطورة واندفاعا وحماسا. فهذا الجيل إذن كباقي الأجيال التي سبقته، في صفاته ومواصفاته، يختلف عنها في الأدوات التي يمتلكها فقط.

أما عن المشاركة في الاحتجاجات، فإن الفيديوات التي رأينا، توضح بجلاء، أن المشاركين فيها كانوا من كل الأجيال، بدءا بجيل “إكس” وصولا إلى جيل “ألفا”، وما بينهما. جيل “إكس” إذن ليس جيلا خارقا غير مسبوق، إنه بكل بساطة امتداد لأسلافه، يحمل نفس جيناتهم. يتحرك عندما تنضج ظروف التحرك، ويغضب عندما يتم هضم حقوقه، ويثور إذا تم احتقاره وشعر بالإهانة، كسابقيه من الأجيال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *