الحرية بين الجوهر والادعاء

لقد أسيء إلى مفهوم الحرية حين حُوِّل إلى أداة أيديولوجية في يد فئةٍ تزعم امتلاك الوعي وتحتكر الفهم، فتقسم الناس إلى “أحرار” و“عبيد”، وفق الولاء للأفكار أو الأشخاص. الحرية ليست شعارًا يرفع في ساحات الخطابة، وإنما تجربة عميقة يعيشها الفكر قبل أن تُمارسها الأجساد. إنّها قدرة الإنسان على أن يتحرر من قيود ذاته أولًا، من أوهام امتلاك الحقيقة، ومن نزعة احتكار الصواب، ومن التعالي الأخلاقي الذي يجعل صاحبه يضع نفسه في موضع المخلّص، بينما يمارس أسوأ أشكال الإقصاء باسم النقاء الفكري.
الحر الحقيقي هو من يجعل ميزان الحق فوق ميزان الولاء، من يقف إلى جانب الفكرة لأنها صائبة، لا لأنها صادرة عن حليفٍ أو قريبٍ أو زعيم. هو من يُخضع عقله للحقيقة حيثما وُجدت، ويُنصف القول قبل أن ينظر إلى قائله. تلك هي روح الحرية الأصيلة التي تتجاوز الانتماء الأيديولوجي، وتعلو على الحسابات الشخصية، وتضع الإنسان في مواجهة ضميره لا في مواجهة خصومه. إنّ الحرية الحقيقية تبدأ حين نملك الشجاعة للإنصات، حين نُنزّل الرأي الآخر من موقع العداء إلى موقع الحوار، وحين نُدرك أنّ الخطأ ليس خطيئة بل فرصة للفهم والنضج.
في المقابل، حين تتحول الحرية إلى شعارٍ متعالٍ على الواقع، تنقلب إلى استبدادٍ جديد يتخفّى في ثوب الثورة. كثير من الذين يرفعون لواء الحرية يرفضون سماع أي صوتٍ يخالفهم، ويُقصون كل رأيٍ يضع أفكارهم في موضع التساؤل، وكأن الحرية التي ينادون بها لا تتسع إلا لهم. هنا تفقد الحرية معناها الإنساني، وتتحول إلى أداةٍ من أدوات الصراع الإيديولوجي الذي يستهلك الطاقات بدل أن يحررها.
الحرية التي نحتاجها ليست حرية الهدم، وإنما حرية البناء؛ حرية العقل الذي يسائل وينقد دون أن يهدم، ويفكّر دون أن يتعالى. فحين تغيب المسؤولية، تتحول الحرية إلى فوضى، وتصبح الأنانية الجماعية مبرّراً لكل سلوكٍ يصدر باسم “التحرر”. وهنا يكمن جوهر الأزمة الفكرية في عالمنا العربي والمغربي على وجه الخصوص: أزمة أخلاقية قبل أن تكون سياسية، لأن غياب البوصلة الأخلاقية يجعل من الحرية ذريعة للهيمنة، ومن النقد أداة للتشهير، ومن الفكر مطيّةً للمصالح الشخصية.
إنّ المجتمعات التي تُفرغ الحرية من مضمونها الأخلاقي تُنتج فوضى فكرية تشبه الحرية في ظاهرها وتناقضها في جوهرها. فحين تغيب المسؤولية، يتحول الخطاب العام إلى مزايدات وشعارات فارغة، وتغدو الأصوات الأكثر صخبًا هي الأكثر حضورًا، رغم فقرها في المضمون. وهنا تتجلى خطورة التوظيف الإعلامي والسياسي لمفهوم الحرية، إذ تتحول الكلمة إلى سلعة، والموقف إلى صفقة، والوعي إلى أداة تسويق.
آن الأوان لتحرير مفهوم الحرية من هذا الاستعمال النفعي الذي جعلها كلمةً بلا مضمون، وأداةً لخدمة أجندات صغيرة. فالحرية ليست حالة فكرية منعزلة، بل مشروع إنساني متكامل قوامه الوعي والعدل والكرامة. إنها تربط الفكر بالفعل، والنقد بالبناء، والموقف بالمسؤولية. وحين نفهمها بهذه الصورة، ندرك أنّ الحرية ليست هدفًا بحد ذاته، وإنما وسيلة لبلوغ إنسانيةٍ أوسع تُعلي من شأن العقل وتُقدّر قيمة الاختلاف.
إنّ الخطوة الأولى نحو الحرية هي التواضع الفكري، ذلك التواضع الذي يجعل الإنسان يعترف بأن الحقيقة لا تقيم في بيتٍ واحد، وأنّ الطريق إليها لا يُرصف بشعارٍ واحد. فالحقيقة موزعة بين العقول، وكلّ فكرةٍ صادقة، مهما صغرت، تملك ما يُسهم في بناء وعيٍ مشترك. أمّا من يرى نفسه مالكًا للحقيقة الكاملة، فهو أكثر الناس بعدًا عنها، لأنّ امتلاكها يبدأ بالاعتراف بحدود الذات وبالإنصات للآخر.
المجتمعات تتقدّم عندما يتحرّر فكرها من الخوف، حين يُصبح النقد ممارسةً طبيعية لا تُجرّم، وحين يُدرك الناس أن الحوار سبيل النضج، لا ساحة صراعٍ لتصفية الحسابات. فالحرية التي لا تُنبت الاحترام لا تثمر، والحرية التي لا تُنتج عدلًا تنقلب على نفسها. ومن هنا فإنّ الدفاع عن الحرية لا ينفصل عن الدفاع عن المسؤولية، وعن الواجب الأخلاقي تجاه الوطن والمجتمع والإنسان.
في سياقنا المغربي، ما أحوجنا إلى حريةٍ تُعيد ترتيب العلاقة بين المواطن والدولة، وبين الفكر والسياسة، وبين الإعلام والحقيقة. حريةٍ لا تخضع للضجيج الإعلامي، ولا تُقاس بعدد المتابعين أو بحجم الجدل، بل تُقاس بمدى قدرتها على إضاءة الوعي العام، وكشف الزيف، وفتح أفقٍ جديد للتفكير. فالأوطان لا تُبنى بالصراخ، وإنما بالحوار الهادئ، وبالإيمان بأنّ الرأي المخالف ليس خصمًا، وإنما شريك في البحث عن الصواب.
الحرية مسؤولية قبل أن تكون حقًا. هي شجاعة الاعتراف بالخطأ، وقدرة الإنسان على مراجعة نفسه دون شعورٍ بالنقص. هي أن تملك القوة لتقول “أخطأت” دون أن تنكسر، وأن تعترف بفضل الآخر دون أن تشعر بالهزيمة. هذه الحرية التي تجعل من الإنسان كائنًا مفكّرًا لا تابعًا، ومن المجتمع فضاءً للتنوّع لا للحرب الفكرية.
حين نصل إلى هذه الدرجة من الوعي، نستطيع أن نعيد للحرية معناها الإنساني النبيل، ونفصلها عن الادعاء والتسييس والمزايدة. حينها فقط، تصبح الحرية طريقًا نحو الارتقاء الجماعي، لا وسيلة لتكريس الانقسام، ويغدو الفكر النقدي علامة صحة، لا تهمةً تحتاج إلى تبرير.
اترك تعليقاً