مجتمع

كيف يدفع نقص الأطباء النفسيين المغاربة والعرب إلى اللجوء للذكاء الاصطناعي؟

يشهد العالم تحولا غير مسبوق في العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا، إذ ينقل الذكاء الاصطناعي دوره من التحليل إلى الإرشاد، ويقدم نفسه “مستشارا رقميا” يجيب على أسئلة تمس أخص خصوصيات الإنسان، بما في ذلك قضايا الصحة النفسية والجنسية التي كسرت حواجز الصمت وخرجت من دائرة “التابوهات” التي طالما منعت النقاش عنها داخل الأسر أو أمام الأطباء أو بين الأصدقاء.

ولم يحدث هذا التحول صدفة، بل فرضته حقائق ميدانية كشفت نقصا حادا في الموارد البشرية داخل قطاع الصحة النفسية في القارة الأفريقية . وحسب الدكتورة “ماتشيديسو مويتي” المديرة الإقليمية لمنظمة الصحة العالمية لإفريقيا في تصريح أدلت به قبل خمس سنوات ” إن القارة الإفريقية تواجه تحديا بنيويا حادا في مجال الصحة النفسية”موضحة أن” خمس عشرة دولة إفريقية تصنف ضمن أعلى ثلاثين دولة عالميا من حيث معدلات الانتحار”.

وأكدت “ماتشيديسو مويتي” أن “خدمات الصحة النفسية ما تزال محصورة في مؤسسات متخصصة داخل العواصم، مما يحد من استفادة الفئات الهشة والمناطق القروية” مشيرة إلى أن” عدد العاملين في هذا القطاع لا يتجاوز 0.9 لكل 100,000 نسمة، وهو رقم يقل كثيرا عن المتوسط العالمي البالغ تسعة مهنيين، بما يعكس خصاصا حادا في الأطباء النفسيين وعلماء النفس عبر القارة”.

وحسب المجلة الصحية لمنطقة شرق المتوسط العدد 7 ، أن عدد الأطباء النفسيين في دولة الجزائر بلغ 898 طبيبا، منهم 270 في القطاع الخاص، بينما يساهم 150 طبيبا عاما في الرعاية النفسية ضمن الهياكل المخصصة لذلك، ويعمل أيضا 1368 أخصائيا نفسيا، منهم 1172 أخصائيا سريريا و196 أخصائي علاج نطق، إلى جانب 2128 ممرضا و95 أخصائي علاج مهني.

وأظهرت أحدث البيانات أن مصر تضم حوالي 1100 طبيب نفسي، منهم نحو 889 يعملون في المؤسسات الحكومية، إضافة إلى 2790 ممرضا نفسيا و117 أخصائيا نفسيا و224 أخصائيا اجتماعيا في مجال الصحة النفسية، ليصل إجمالي العاملين في القطاع إلى نحو 3836 مهنيا. وتشير تقارير أخرى إلى أن كثافة الأطباء النفسيين في مصر تبلغ 0.68 لكل 100,000 نسمة، وأن إجمالي العاملين في الصحة النفسية (بكل التخصصات) يصل إلى 7.3 لكل 100,000 نسمة، وهي نسب أدنى من المتوسط العالمي، رغم التوسع الملحوظ في البنية التحتية للخدمات النفسية خلال السنوات الأخيرة حسب تقرير المركز الوطني لمعلومات التقنية الحيوية (PMC).

وفي المغرب، تواجه منظومة الصحة النفسية نقصا مزمنا في الموارد البشرية، وأشارت تصريحات وزير الصحة السيد أمين التهراوي، خلال مناقشة الميزانية الفرعية لوزارته في مجلس النواب، إلى أن هذا النقص يمثل العائق الأكبر أمام الوصول إلى العلاج النفسي، مضيفا أن عدد الأطر المختصة في الصحة النفسية والعقلية بلغ إلى حدود سنة 2025 ما مجموعه 3230 مهنيا صحيا، ويشمل ذلك 317 طبيبا متخصصا في الطب النفسي بالقطاع العام و274 طبيبا بالقطاع الخاص و62 مختصا في الطب النفسي للأطفال بالقطاع العام و14 مختصا بالطب النفسي للأطفال في القطاع الخاص و1700 ممرض متخصص في الصحة العقلية بالقطاع العام فقط.”

وتظهر هذه الأرقام اختلالا واضحا في توزيع الموارد البشرية داخل منظومة الصحة النفسية بكل من المغرب ومصر والجزائر، حيث يطغى الحضور التمريضي على حساب التخصصات الطبية الدقيقة ـ خاصة في مجال طب نفس الأطفال والمراهقين ـ الذي لا يزال يعاني خصاصا حادا، و تؤكد هذه المعطيات الحاجة الماسة إلى تعزيز التكوين والتوظيف في مجال الطب النفسي لتقليص الفجوة القائمة بين العرض والطلب، وضمان تغطية صحية نفسية متوازنة وشاملة في مختلف جهات الدول الثلاث.

في ظل هذه الأرقام التي تكشف عن النقص الحاد في الأطر المتخصصة في الطب النفسي والعقلي، أصبح عدد متزايد من المستخدمين يلجأ إلى الذكاء الاصطناعي لطرح أسئلة كانت تعد سابقا من المواضيع الحساسة أو المحظورة اجتماعيا، فبينما يسأل بعضهم عن الاكتئاب وطرق التعامل مع نوبات الهلع، يستفسر آخرون عن تأثير العادة السرية على الخصوبة، أو أعراض العدوى المنقولة جنسيا، أو حدود العلاقة الزوجية الآمنة، إضافة إلى أسئلة متعلقة بالممارسة الجنسية والتجارب الحميمية، وتعكس هذه التساؤلات شجاعة جيل جديد في مواجهة مخاوفه النفسية والجسدية ورغبته في الخروج من صمت الأطر التقليدية لفهم ذاته وتحقيق حوار أكثر حرية ووعي حول قضايا الصحة النفسية والجنسية.

وتشير الدراسات الحديثة إلى أن بعض روبوتات الدردشة تقدم إجابات دقيقة نسبيا في مجال الصحة الجنسية، فقد قيمت دراسة في (BMC Public Health) أداء ثلاثة روبوتات على أساس 195 سؤالا حقيقيا، ورصدت أداء متفاوتا لكنه واعد، كما تبرز مراجعة بعنوان (Chatbots for Sexual Health Improvement) أن هذه الأدوات تساهم في التثقيف الجنسي، لكنها تبقى محدودة بحدود المعرفة والفهم اللغوي، وفي السياق نفسه توضح مراجعة أخرى بعنوان (Sexual health in the era of artificial intelligence) أن الذكاء الاصطناعي يتيح سهولة الوصول والسرية، لكنه يعجز عن مجاراة مقدمي الرعاية البشرية من حيث التعاطف والخبرة الإكلينيكية.

ورغم كل ذلك، ما يزال الطريق طويلا قبل أن يصبح الذكاء الاصطناعي جزءا آمنا ومتكاملا من منظومة الرعاية النفسية والجنسية، فهذه التقنيات وإن وفرت الخصوصية وسهولة الوصول، تثير تساؤلات جدية حول دقة المعلومات، والتحيزات الثقافية، وأمن البيانات الشخصية، و تحذر دراسات متخصصة من أن بعض النماذج اللغوية تنتج إجابات غير آمنة في نحو 5 إلى 13 في المائة من الحالات الطبية، كما أن الإفراط في استخدامها قد يعزز العزلة النفسية ويولد اعتمادا عاطفيا على “الآلة”، خصوصا في غياب الإشراف الإنساني.

ويشير الخبراء إلى أن الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد أداة تقنية، بل أصبح مرآة تعكس أزمات المجتمع وهمومه، حيث يجد المستخدمون فيه مساحة للبوح عن معاناتهم بصمت وأمان بعيدا عن الأحكام المسبقة. وبينما يعتبره بعضهم “علاجا رقميا” يحذر آخرون من أن غياب الإشراف الطبي والتقييم الأخلاقي قد يحوله إلى تهديد محتمل، ويؤكد المختصون أن الحل يكمن في تحقيق توازن بين التكنولوجيا والإنسان، وجعل الذكاء الاصطناعي جسرا للوعي والدعم النفسي، وليس بديلا عن الإنسان الذي يفهم الألم ويمنح الأمان، مع ضرورة ضمان إشراف طبي مستمر واتباع ضوابط واضحة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *