مسجد باريس الكبير: رمزية التاريخ وصراع النفوذ المغاربي

منذ تدشينه سنة 1926، ظلّ مسجد باريس الكبير أكثر من مجرد فضاء ديني أو تحفة معمارية ذات طابع مغاربي – أندلسي. فالمكان الذي شُيّد في قلب العاصمة الفرنسية بتمويل فرنسي وحضور رسمي مغربي، تحوّل مع مرور الزمن إلى ساحة تتقاطع فيها رهانات الهوية والسلطة والتمثيل، بين ذاكرة مغربية متجذّرة ونفوذ جزائري متنامٍ. وهو ما جعل المسجد، الذي وُلد كجسر روحي بين الإسلام وفرنسا، يتحوّل اليوم إلى رمز لصراع نفوذ مغاربي في أوروبا، تتداخل فيه السياسة بالدين، والذاكرة بالهيمنة.
كان المسجد في بداياته جزءًا من مبادرة فرنسية لتكريم الجنود المسلمين الذين سقطوا في الحرب العالمية الأولى، غير أن هذا “التكريم” لم يكن بريئًا بالكامل. فقد رأت فيه باريس أيضًا وسيلة لتأطير الجاليات المسلمة القادمة من مستعمراتها، عبر فضاء ديني يخضع لإشرافها ورقابتها. ومع ذلك، فإن لحظة التأسيس نفسها حملت بصمة مغربية واضحة، سواء على مستوى الشرعية الدينية أو المضمون الفني والمعماري. حضور السلطان مولاي يوسف شخصيًا في حفل التدشين لم يكن تفصيلاً بروتوكوليًا، بل إشارة رمزية إلى أن المشروع وُلد برعاية مزدوجة: فرنسية التمويل، مغربية الروح.
لقد أسّس السلطان حينها مع السلطات الفرنسية نظامًا للوقف (الحبوس) لتسيير شؤون المسجد، بما يضمن استقلاله الإداري والمالي. كما أُقيمت المرجعية الدينية على المذهب المالكي المغربي، لتكون امتدادًا طبيعيًا للتقاليد الفقهية القادمة من فاس ومراكش. حتى العمارة نفسها كانت ناطقة بهذا الانتماء: الزخارف الجصية والزليج الملون والكتابات العربية التي أنجزها حرفيون مغاربة استُقدموا خصيصًا من فاس ومكناس، والمئذنة التي استلهمت تصميمها من مسجد الكتبية الشهير في مراكش، كل ذلك جعل المسجد الكبير في باريس تحفة مغربية الهوى والهوية. كانت تلك المرحلة، بلا مبالغة، تتويجًا لحضور مغربي ثقافي وروحي داخل أوروبا، قبل أن تبدأ ملامحه في التراجع لاحقًا.
غير أن هذا التوازن لم يدم طويلاً. فمنذ ثمانينيات القرن الماضي، بدأ النفوذ الإداري والمالي للمسجد ينتقل تدريجيًا إلى الجزائر، في سياق سياسي متقلب تزامن مع الحرب الأهلية هناك ومع توتر العلاقات المغربية – الفرنسية. ومع غياب المبادرة المغربية، دخلت الجزائر على الخط عبر بوابة التمويل. فالدعم المالي الكبير الذي قدمته سنويًا للمسجد، والذي يُقدّر بالملايين، منحها تدريجيًا قدرة على توجيه قراراته وتحديد مساراته. ووفق ما أوردته تقارير فرنسية، فقد أصبح مسجد باريس خاضعًا، بحكم الأمر الواقع، لشبكة نفوذ جزائرية ذات امتدادات أمنية وسياسية، يصفها بعض الباحثين بأنها “لوبي داخلي” يعمل بذكاء داخل المؤسسات الدينية الفرنسية.
تدريجيًا، تحوّل المسجد من فضاء روحي مفتوح لكل الجالية المغاربية إلى ما يشبه “منطقة نفوذ جزائرية خاصة”. هذا التحوّل لم يقتصر على الجانب المالي، بل شمل أيضًا إدارة الشهادات المتعلقة بالمنتجات “الحلال”، وهي سوق مربحة تُقدّر بملايين اليوروهات. وتشير بعض الصحف الباريسية إلى أن شركة “الحلال” التابعة للمسجد باتت أداة اقتصادية استراتيجية تستخدمها الإدارة الحالية لتوجيه التبادلات التجارية مع الجزائر، ما يمنحها امتيازات احتكارية ويعزز ارتباطها بالنظام السياسي في الجزائر العاصمة. ومن ثم، لم يعد المسجد مجرد مؤسسة دينية، بل أصبح في نظر كثيرين “السفارة الثانية للجزائر في باريس”، حيث تُمارس من داخله أدوار سياسية موازية تحت غطاء العمل الديني والثقافي.
شخصية العميد الحالي، شمس الدين حفيظ، تُجسّد هذا التحوّل. فهو يقدم نفسه في الخطاب الرسمي كمدافع عن قيم الجمهورية والعلمانية الفرنسية، غير أن مواقفه الداخلية تُظهر ارتباطًا وثيقًا بالسلطات الجزائرية. وقد نقلت تقارير إعلامية فرنسية عن مصادر مطلعة أن إدارة المسجد تخضع لتأثير مباشر من العقيد محمد الورنوغي، ضابط الاتصال الأمني بين الاستخبارات الجزائرية والجالية المسلمة في أوروبا. وتشير نفس التقارير إلى أن الورنوغي يتولى التنسيق بين إدارة المسجد وجمعية “تحالف المساجد في أوروبا”، وهي منصة أنشأتها الجزائر لتوسيع حضورها الديني في القارة. هذا التشابك بين الدين والسياسة والأمن جعل المسجد الكبير يتحول إلى فضاء يدار عبر خيوط غير مرئية، تتحكم فيها المصالح الإقليمية أكثر من القيم الدينية التي تأسس من أجلها.
أمام هذا الواقع، بدأت السلطات الفرنسية تدرك حجم التعقيد في علاقة المسجد بالفاعلين الخارجيين. فقد فتحت خلال العامين الأخيرين تحقيقات موسعة تتعلق بالتمويل والإدارة، في محاولة لفصل ما هو ديني عن ما هو سياسي. ومع ذلك، يظل السؤال مطروحًا حول مدى قدرة باريس على تحرير هذا الفضاء الرمزي من النفوذ المغاربي المتشابك دون المساس بالتوازن الحساس بين الجاليات المسلمة.
على الجانب الآخر، يواجه المغرب تحديًا من نوع آخر: كيف يمكنه استعادة رمزيته التاريخية دون الانزلاق إلى سباق نفوذ مماثل؟ فبرغم الإنفاق الكبير الذي تخصصه الرباط لإدارة شؤون الجالية في أوروبا، والذي يُقدّر بمئات الملايين من الدراهم سنويًا، فإن أثره الميداني يبدو محدودًا. تعاني المؤسسات الدينية المغربية في فرنسا من جمود واضح، سواء في البنية الإدارية أو في الخطاب الديني نفسه. كوادر قديمة، ووجوه فقدت القدرة على مخاطبة الأجيال الجديدة، ما جعل الحضور المغربي يبدو أكثر رمزية منه فاعلية. ووفق بعض المراقبين، فإن هذا الجمود سمح بتراجع النموذج المغربي في تمثيل الإسلام الوسطي المعتدل، وفتح الباب أمام قوى أخرى لملء الفراغ، وعلى رأسها الجزائر التي اعتمدت إستراتيجية أكثر هجومية في إدارة الشأن الديني بأوروبا.
لكن هذا التراجع لا يُخفي حقيقة أخرى: أن النفوذ الجزائري نفسه يواجه أزمة مصداقية متنامية. فبقدر ما وسّعت الجزائر شبكتها داخل المؤسسات الدينية الفرنسية، بقدر ما تورطت في ازدواجية خطاب لم يعد مقنعًا أمام الرأي العام. فالمسجد الذي يُرفع فيه شعار الاعتدال والانفتاح في باريس، يُستخدم أحيانًا كمنصة لخدمة أجندة سياسية مغاربية ضيقة، وهو ما أثار تحفظات متزايدة لدى السلطات الفرنسية نفسها. وتؤكد بعض التحليلات في الصحافة الفرنسية أن باريس بدأت تراجع سياستها التقليدية في التعامل مع الملفين المغربي والجزائري، في ضوء التحولات الجيوسياسية في شمال إفريقيا.
وقد تجلت هذه المراجعة بوضوح خلال صيف 2024، حين أعلن الرئيس إيمانويل ماكرون أن مقترح الحكم الذاتي في الصحراء المغربية يشكل “الأساس الأكثر جدية وواقعية” لحل النزاع، في تحول استراتيجي غير مسبوق في الموقف الفرنسي. لم يكن هذا الموقف مجرد إعلان دبلوماسي عابر، بل إشارة إلى نهاية مرحلة طويلة من التوازن الرمادي في العلاقات مع الجزائر. وقد قوبل القرار الفرنسي برد فعل غاضب من الجزائر، التي سارعت إلى استدعاء سفيرها من باريس، معتبرة الموقف نتيجة لضغوط “لوبيات فرنسية وصهيونية معادية”. غير أن الواقع يكشف أن هذا التحول لم يكن إلا انعكاسًا لتبدّل موازين المصالح، حيث باتت باريس تدرك أن الشراكة الاقتصادية والأمنية مع المغرب أكثر استقرارًا وجدوى من الرهان على نظام جزائري مأزوم داخليًا.
هذا التحول الفرنسي أضعف قدرة اللوبي الجزائري على التأثير في القرار الباريسي، بما في ذلك عبر واجهاته الدينية. فالمسجد الكبير في باريس، الذي كان يُستخدم ضمن أدوات النفوذ الناعمة الجزائرية، يجد نفسه اليوم في قلب عاصفة سياسية مزدوجة: رقابة فرنسية داخلية، ومنافسة مغربية رمزية متجددة. وبين هذا وذاك، تبدو الجالية المسلمة في فرنسا هي الخاسر الأكبر، إذ تُستعمل مؤسساتها أحيانًا كأوراق في لعبة النفوذ الإقليمي بدل أن تكون فضاءات للتعايش والتنوير.
في نهاية المطاف، تظل قصة مسجد باريس الكبير مرآة مكثفة للعلاقات المغاربية المتشابكة فوق التراب الفرنسي. فالمكان الذي وُلد مغربيًا في هندسته وروحه، أصبح جزائريًا في تمويله وإدارته، ويخضع اليوم لمراقبة فرنسية دقيقة تحاول إعادة تعريف دوره. هذا التداخل بين التاريخ والسياسة، بين المعمار والدبلوماسية، يجعل المسجد الكبير أكثر من مجرد معلم ديني؛ إنه ساحة مفتوحة لصراع رمزي يعكس التوترات العميقة في المنطقة المغاربية.
يبقى السؤال الأكبر: هل يمكن لفرنسا أن تُعيد للمسجد روحه الأولى، بوصفه فضاءً للحوار والاعتدال بعيدًا عن حسابات الأنظمة؟ وهل يستطيع المغرب استثمار رمزيته التاريخية لإعادة التوازن دون أن ينجرّ إلى منطق الصراع ذاته؟ بين هذين السؤالين تتشكل معالم معركة هادئة ولكنها حاسمة على أرض باريس، حيث لا يُرفع الأذان من أجل الصلاة فقط، بل أيضًا من أجل تثبيت الشرعية الرمزية لمن يمثل الإسلام المغاربي في أوروبا.
اترك تعليقاً