منتدى العمق

أستاذ من درجة كناكري!

تقدم أحدهم لخطبة فتاة فسأله والدها عن طبيعة عمله فقال له: “أَنَا كْنَاكْرِي”. فقال له والد العروس: “تْبَارْكْ الله أَوْلْدِي، وَاشْ هَادِي رُتْبَة جْدِيدَة فَالْخِدْمَة الْعَسْكَرِيَّة؟” فأجاب عريس الغفلة: “لَا أَعَمِّي، كْنَاكْرِي زَعْمَا فِينْمَا يْبَانْ شِي كُونْكُورْ كَنْدَوّْزُ!”

لعل ذلك ينطبق على آلاف الأساتذة في المغرب، الذين تحولت حياتهم إلى ماراثون سنوي لا ينتهي من المباريات والامتحانات. فمع بداية كل موسم، لا يستعد الأستاذ لدروسه وتلاميذه فحسب، بل يفتح أجندة موازية من الإعداد والمراجعة لسلسلة كاملة من بطاقات اليانصيب الإدارية. ولنا في مباراة ولوج سلك التوجيه والتخطيط التربوي الأخيرة خير مثال، حيث تنافس آلاف المترشحين على عدد محدود جدا من المناصب لا يتجاوز العشرات، في سباق محموم أشبه بعملية تخصيب البويضة، حيث يندفع الجميع نحو هدف واحد لا يصل إليه إلا المحظوظ.

والغريب في الأمر أن هذا السعي المحموم ليس دائما حبا في الترقية بقدر ما هو رغبة عارمة في الهروب من القسم. ففي الوقت الذي تحدثنا فيه الوزارة عن جاذبية المهنة وضرورة تكريم المدرس، يصطف الآلاف من هؤلاء المدرسين أنفسهم في لوائح الترشيح للمباريات، ليس بحثا عن مجد إضافي، بل كمن يبحث عن قارب نجاة. وحين يصلون إلى محطة الامتحانات المهنية ، يكتشفون أن قواعد اللعبة ظالمة، فالأرقام الرسمية نفسها تعترف بأن كوطا النجاح تتأرجح ببرود حول نسبة 13%. هذا يعني أن أكثر من 80% من المترشحين يدخلون الامتحان وهم يحملون فشلهم المبرمج مسبقا، فكفاءتهم وخبرتهم وسنوات جهدهم لا قيمة لها أمام مقصلة الميزانية.

ثم تأتي لحظة الحقيقة، أو بالأحرى لحظة الغياب التام للحقيقة. فبعد أشهر طويلة من الانتظار القاتل الذي تبرع فيه الإدارة، تظهر النتائج أخيرا كأحكام قضائية غير قابلة للاستئناف. لا أحد يعرف نقطته، لا أحد يستطيع الاطلاع على ورقته، ولا وجود لآلية حقيقية للطعن. أنت إما ناجح بأعجوبة إحصائية، أو راسب ضمن الأغلبية الساحقة، وعليك أن تبتلع النتيجة وتعود للإعداد للموسم المقبل. هذا الجدار الإداري الأصم لا يغذي الشك في نزاهة النتائج فحسب، بل يقتل في الموظف أي إحساس بقيمة جهده، ويجعله يشعر أنه مجرد رقم في معادلة بيروقراطية معقدة ومصممة سلفا لإقصائه.

وبالحديث عن الآلة البيروقراطية، يطفو على السطح المركز الوطني للامتحانات، تلك المؤسسة التي تعمل بتقويمها الزمني الخاص، متحررة من أي استعجال أو مساءلة. وتتجلى فلسفة الجمود هذه في الجدل الذي صاحب تنصيب المسؤول الأول عنها بين تمديد لمدير سابق بعد تقاعده وهو الذي تربع على عرش المركز ستة عشر سنة أو تدبير بتكليف، وكأن الخبرة في صناعة الغموض وتأخير النتائج هي كفاءة نادرة يجب الحفاظ عليها بأي ثمن. إنه إصرار ممنهج على تفضيل الاستقرار المريح على الشفافية المزعجة، مما يجعل أي أمل في الإصلاح وهما بعيد المنال.

وهنا تكمن المأساة الكبرى، فكل حديث عن إصلاح التعليم وتجويد المناهج يبدو كأنه جراحة تجميلية على جسد يعاني من مرض عضال. كيف يمكن بناء منظومة تعليمية قوية بأطر محبطة ومستنزفة، تقضي نصف حياتها المهنية في الركض وراء سراب تغيير الإطار والهروب؟

إن أي إصلاح حقيقي لا يبدأ من المقررات الدراسية، بل من إعادة الكرامة والثقة للموظف. وأمام هذا الواقع، ربما يكون الاقتراح الأكثر عقلانية ، رغم سخريته، هو إضافة معيار جديد لمسابقات الوزارة وهو نظام الأقدمية، فالذي اجتاز امتحانات وزارة التربية وتجرع مرارتها عشرات المرات لا ينبغي مساواته مع من يجرب حظه لأول مرة ! على الأقل سيعرف الجميع مكانهم في الطابور وقد يخفف ذلك من وطأة الإهانة من نظام يدعي الجدارة ويمارس الإقصاء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *