وجهة نظر

الدرس المفيد من قضية الرميد

من الدروس الأولى في السياسة عدم التسرع في إصدار الأحكام من دون معرفة خلفيات وأسرار بعض التسريبات التي تطال حياة سياسيين أو صحافيين أو حقوقيين، خاصة إن كانت عبر قنوات مشبوهة، معروف عنها ريادتها لعمليات التشهير والمس بالسمعة والحياة الخاصة للشخصيات المزعجة، ذلك أن هناك خيوطا رفيعة بين الانتصار للحقيقة والحق، وبين المساهمة بقصد أو بدون قصد في خدمة أجندة الابتزاز والتخويف التي تمارسها جهات تحكمية نافذة ضد كل من يتجرأ على الوقوف ضد مصالحها لو لمرة واحدة.

مناسبة هذا القول، هو النقاش الذي أثير مؤخرا من طرف بعض الجهات حول الموظفة بمكتب محاماة الأستاذ المصطفى الرميد، وعن عدم تسجيلها في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، والذي ابتدأ بنشر تسجيل صوتي مجهول المصدر، تلته فيما بعد حملة منسقة في الموضوع، تزعمتها منابر معروفة بتوجهها المعادي لحزب العدالة والتنمية، ثم انخرط فيها آخرون بعضهم بحسن نية، والبعض الآخر بسوء نية.

وعلى الرغم من أن عائلة الموظفة المعنية تبرأت من التسجيل الصوتي المنشور، واستنكرت محتواه، وأكدت في تصريح لها أن ابنتهم المرحومة كانت بمثابة ابنة للرميد ومحط ثقته، وكانت بيدها جميع الصلاحيات الإدارية والمالية لمكتب المحاماة، وأنها تلقت مبلغ 23 مليون سنتيم لتسجيل نفسها بالصندوق الوطني للضمان الاجتماعي منذ مدة، إلا أنها آثرت الاحتفاظ بذات المبلغ لنفسها، (رغم كل هذا)، اختار حزب العدالة والتنمية، وبتكليف من أمينه العام، وبطلب من الرميد نفسه، أن يعرض الموضوع على لجنة النزاهة والشفافية التابعة للحزب، مقدما بذلك لبقية الاحزاب درسا جديدا في المسؤولية وتفعيل المساطر.

كل هذا ليس مهما.. المهم هو أن تعليقات الناس حول هذا الموضوع، بغض النظر عن نياتهم وخلفياتهم، تعكس مدى شعورهم بالحرية وبالاطمئنان، وعدم خشيتهم على مصيرهم من زوار الليل، لأن الأمر يتعلق بشخصية سياسية منتخبة تأكل الطعام وتمشي في الأسواق.. حتى لو كان مسؤولا من درجة وزير دولة.. فالناس لا يخشون على أنفسهم من وزراء دولة منتخبين. وهذا من نتائج الديمقراطية، التي أتاحت للشعب إمكانية انتقاد ومراقبة ومحاسبة الوزراء السياسيين المنتخبين، دون خوف أو رهبة من انتقام سلطوي محتمل، لأننا ندرك بأن الموقع الذي يجلسون فيه وصلوا إليه بفضل أصوات الشعب الذي فوضهم جزءا من السلطة لتدبيرها لمرحلة مؤقتة، ويمكن أن يسترجعها وقتما شاء… (وهذا معنى “الشعب مصدر السلطة”).

أما لو تعلق الأمر بوزراء أو مسؤولين من طينة “خدام الدولة”، فتلك قصة أخرى تتطلب أن تلوك لسانك سبع مرات، قبل أن تنتقد بلغة خشبية لا يفهمها أحد.. هنا الفرق بين المسؤول المنتخب بالإرادة الشعبية وعبر الصناديق، وبين من يستمد سلطته وموقعه من شرعية أخرى لها القدرة على البطش وتملك أدوات العنف المشروع وغير المشروع..

إن اهتمام المواطنين بأداء السياسيين، سواء بالتأييد أو بالنقد والمعارضة، يعكس حجم الأمل وحجم الانتظارات المعلقة عليهم، ومدى اهتمام الناس بالفكرة الديمقراطية أساسا، فهم يعرفون بأن الديمقراطية الحقيقية هي تلك التي يمثلها السياسيون “الحزبيون”، وهم يعرفون في قرارات أعماقهم بأن المسؤول الذي يمثلهم حقيقة هو ذاك الذي أفرزه الصندوق. وعلى هذا الأساس، فهم يميزون جيدا بين جدوى الحديث عن مسؤول منتخب، وآخر لم ينتخبه أحد.

فمتى ستصبح لدينا حكومة يمكن أن ننتقد جميع أعضائها، وتصلنا الأخبار الدقيقة عن حياتهم الخاصة والعامة، فننتقدهم دون خوف من بطش السلطة، أو من فبركة ملف، أو جرجرة في المحاكم…!!؟

ما نلاحظه حاليا، وحالة الرميد كمثال، هو جزء من نعمة الحالة الشبه ديمقراطية التي نعيشها.. فكيف سيكون الحال إذا صرنا إلى ديمقراطية كاملة..؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *