التابث والمتحول في تجويد خدمات الصيدلة في المغرب

يرتبط مسلسل تجويد الخدمات الصيدلانية في المغرب، إرتباطا متصلا، ومتشابكا وغير قابل للفصل عن تجويد الخدمات الصحية ككل، إذ لا يمكن فصل الخدمات الصيدلانية عن الخدمات الصحية الأخرى التي تقدمها باقي الهيئات، وإذا كانت جميع الخدمات الصحية الأخرى قد شهدت خلال العقدين الأخيرين، نقاشات عمومية مستفيضة ووافية على عدة مستويات إعلامية ومؤسساتية، فإن خلق نقاش عمومي ومؤسساتي حول تجويد الخدمات الصيدلانية، ضل متجمدا و جامدا، ويمكن الجزم أنه نقاش لن يتحرك في ظل الجمود الذي تعيشه الهيئات المهنية، وذلك موازاة مع غياب أي إرادة حقيقية لتفعيل ميثاق الأخلاقيات الذي يُعد مدخلا أساسيا لتطوير وتجويد خدمات الصيدلة في المغرب.
وإذا كان التقرير الأخير للمجلس الأعلى للحسابات بخصوص أرباح الصيادلة، مثمرا ومنتجا إلى حد ما ،حيث تمكن من زعزعة الركود الفكري والمعرفي الذي يعيشه القطاع، إلا أنه سيبقى منقوصا و غير ذي جدوى في غياب نقاش مُوَسع، يشمل دراسة معيقات تفعيل الجانب الأخلاقي، الذي يعتبر دعامة أساسية لإطلاق أي مبادرات لتجويد الخدمات الصيدلانية بالمغرب والرقي بها نحو مستويات فضلى.
وقبل الخوض في تحليل وفهم الجدل الدائر حاليا حول هامش الربح المخصص للصيادلة في المغرب، لا بد من قراءة متأنية وموضوعية للوقائع المتسارعة التي يعيش على وقعها الصيادلة، وذلك منذ أن نشر المجلس الأعلى للحسابات تقريرا مختصرا يكشف من خلاله هامش الربح المادي المكفول قانونيا للصيادلة، والذي على إثره تباينت وتقاطعت ردود الأفعال بشكل متسارع بين نقابات الصيادلة من جهة، و بين الرأي العام الوطني ومعه المؤسسات الوزارية والحكومية من جهة ثانية، وكلها أحداث متسارعة، ومترادفة، ابتدأت بنشر التقرير وإنتهت بإجتماع له طابع المجاملة في وزارة الصحة، مرورا بخوض إضراب 13 أبريل، وكل هذه الوقائع تبقى دون أهمية قصوى اعتبارا لتصريح وزير الصحة من داخل قبة البرلمان، حينث أشار إلى أن الصيادلة حاليا في المغرب يشتغلون في ظل إنتخابات مهنية مُجمدة ودون تمثيليات مهنية.
تقرير المجلس الأعلى للحسابات كان دقيقا إلى حد ما من حيث الموضوع، وكشف بطرق سليمة هامش ربح الصيادلة، إلا أن التصريحات الصحفية التي خرج بها ممثلو الصيادلة، جاءت متشابهة ومتطابقة ، و تسير كلها في إتجاه إلقاء اللوم على الوزارة، وتوجيه أصابع الإتهام بعيدا عن القطاع، بل تمادت بعض التصريحات، ووصلت إلى حد مجانبة الصواب بشكل مبالغ فيه، حيث إدعت أن بعض الصيادلة أعلنوا إفلاسهم بسبب الركود الإقتصادي، وهو ما يمكن إعتباره مزايدات لا ترتكز على أي أسس قويمة، إذ أن بعض الصيدليات تعاني من مشاكل ذات طابع ذاتي، ولا يمكن إعتماد مشاكلها الخاصة كمرجع لتقييم الوضعية المادية للصيدليات .التي تبقى مُناسِبة لمزاولة المهنة في ظروف مادية محترمة.
أما بخصوص تقييم جودة خدمات الصيدلة، فيجب الإقرار أولا على أن قطاع الصيدلة في المغرب تمكن من تقريب الأدوية ومعها بعض الخدمات الصحية من مواطنين مغاربة في مناطق نائية، وذلك عبر إحداث مئات الصيدليات للقرب، بالإضافة للخدمات الإستشارية الصحية التي يوفرها الصيادلة لعموم المواطنين المغاربة بشكل يومي ومستمر ، دون أن ننسى الخدمات الإجتماعية التي يؤديها الصيدلي، منها على الخصوص تسهيل عملية أداء فاتورة الدواء على المواطنين، حيث توفر أغلب الصيدليات المتواجدة بالأحياء و التجمعات السكنية التي تعاني من الهشاشة تسهيلات في الأداء لفائدة المرضى ، لكن بالرغم من هذه الخدمات والإجتهادات، فإن الجانب العلمي والأكاديمي في ممارسة الصيدلة في المغرب يبقى أقل من المتوسط إعتبارا لتوصيات منظمة الصحة العالمية.
وتبقى محاولة تخليق وتجويد ممارسة الصيدلة في المغرب وفق المؤشرات الحالية، غير مضمونة النتائج، ويمكن القول أنها بعيدة المنال، وذلك في ظل الإختيارات السائدة حاليا لدى العديد من الصيادلة، والتي تحصر عالم الصيدلة فقط في طلب ، إستلام ، تخزين ، تسليم وبيع الأدوية ومراقبة الوصفات الطبية، و خدمات أخرى بسيطة.
ولَعَلَّ أبرز ما يواجه مسار تجويد الخدمات الصيدلانية في المغرب، هو ضعف عمل المؤسسات المهنية، حيث تعيش هيئات الصيادلة على وقع الجمود منذ عشرات السنين، حتى أن هناك بعض الصيادلة استأنسوا بهذا الجمود، وحتى إنتخاب الهيئات المخول لها ضبط وتقييم ممارسة مهنة الصيدلة تعرف هي الأخرى ركودا عميقا، استدعى تدخل الوزارة الوصية مرات متعددة، بالإضافة للفراغ التشريعي، و عدم المصادقة على مدونة الأخلاقيات بمرسوم وزاري و نشرها في الجريدة الرسمية ، وذلك حتى تصبح لها صفة إلزامية..وكل هذ المؤشرات تحيلنا على السؤال الجوهري الذي يتجدد بإستمرار، ماهي القيم التابثة التي لا تقبل التحويل ولا التغيير في عمل الصيدلي في المغرب؟ وماهي القيم القابلة للتحويل والقابلة للتطوير؟.. وبدون ضبط ورصد جواب لهذا السؤال، فإن أغلب المحاولات الرامية لتجويد خدمات الصيدلة نحو مستويات فضلى ستبقى دون جدوى أو محدودة جدا.
اترك تعليقاً