وجهة نظر

الهمة و”البام”.. قطعوا الحبل السري لكن هل تحقق الفطام؟

كنزلة المظليين نزل من برجه العاجي متدخلا السيد فؤاد عالي الهمة ليخوض وحل السياسة، استقال من منصبه الحساس، ووافق الملك على استقالته، و تقدم للانتخابات بلائحة مستقلة رمزها الجرار، اكتسح إقليم ترشحه، و ذهب بعيدا ليؤسس حركة لكل الديمقراطيين، وما هي إلا مدة قصيرة حتى تحولت إلى حزب له قواعده و فروعه بمختلف مناطق البلاد، لكن مع هبوب رياح ما يصطلح عليه بالربيع العربي و صعود الإسلاميين إلى واجهة التسيير ، و احتدام النقاش حول شرعية “البام” السياسية، أصبح هذا الحزب يحاول ما أمكن أن يظهر بمظهر شيء آخر غير ذلك التنظيم المتماهي مع الخطاب الملكي الرسمي، وذلك بتعمد خرجات على لسان زعميه السيد إلياس العمري، يتجرأ فيها حتى على أسمى الاختيارات الملكية الكبرى كمبادرة الحكم الذاتي و طريقة عمل إذاعة محمد السادس للقران الكريم ،…. إلى غير ذلك من الخرجات “التثاورية” القوية التي تشكل نقلة نوعية للحزب في اتجاه ما يمكن أن يظهر للملاحظ البسيط استقلالية ملموسة في البرامج و الخطابات .

و على النهج نفسه كانت عودة السيد فؤاد عالي الهمة إلى أحضان القصر الملكي ملائمة و صحية لتجنب الكثير من الكلام ، إذ عينه الملك مستشارا وانتشله بشكل رسمي من أوحال السياسة ، مما يعطي انطباعا عاما برغبة المؤسسة الملكية في النأي بعيدا ما أمكن بنفسها عن شبهة التعاطف الحزبي.

لكن رغم ذلك فإنه يمكن القول أن هذه الشبهة ستظل قائمة ، بل وستزداد حدة ، و إن لم تتوفر للملاحظ أدلة واقعية ملموسة تثبتها ، حيث أن المتحكم هنا هو عامل سيكلوجي بالأساس، قبل أن يكون عاملا ماديا بالضرورة، فالسيد الهمة صديق الملك و هو مؤسس “البام”، وبالتالي فإن المواطن المغربي الذي تأخده العاطفة سيشعر بأنه أمام منطق اجتماعي معروف ألا وهو أن : صديق صديق الملك سيصير صديقه أيضا ، و عدو صديق الملك سيصير عدوه أيضا ، لذلك فإن صداقة الملك للهمة و ظهوره معه بشكل منفرد و متواصل في جولاته الخاصة يزيد من فرص الحديث عن مشاركة الملك له في همسات تأسيس حزب “البام”، ليكون حزب المؤسسة الملكية الأول الذي يستنسخ توجهاتها الوطنية الكبرى بشكل يكاد يقترب إلى الطابع العلني الرسمي .

صحيح أن للدولة استخباراتها القوية المتجذرة التي يمكن بواسطتها أن تؤسس حتى حزبا ثوريا راديكاليا معارضا لها في العلن و مواليا لها في الخفاء ، إلا أن نزول الهمة من برجه لينفد مهمة سياسية بضربة خاطفة و يعود على عجل، لا بد أن يجر منطقيا الكثير من الشكوك حول مصدر قوة حزب “البام ” التي يمكن اختزالها في هالة صديق الملك و ما للأخير من اعتبار في نفوس المغاربة.

إن تأسيس حزب إداري عادي لا بد أن يأخذ الكثير من الوقت ليصل إلى تحقيق أهدافه الخفية أو المعلنة ، أما حزب الجرار فيشكل حالة تدخل عاجلة استثنائية شبه علنية غومر فيها وقتيا باسم الملك لتأسيس كيان سياسي اقتضته ظروف مرحلة المد الإسلامي المتواصل في ظل التلاشي المستمر للأحزاب التقليدية، إذ يمكن أن يقسم الفرد هنا بأنه لولا اقتران اسم الهمة باسم الملك واقتران اسم الهمة باسم” البام” ما كان هذا الحزب الوليد أن يوجد لنفسه كل هذا الحجم من الانتشار و كل هذا المستوى من النفوذ في ظرف قياسي وجيز .

أما من يقول أن السيد الهمة لم تعد له علاقة الآن مع “البام” ، فإنه من الصعب أن يصدق أحد مثل هذا الكلام ، فحتى وإن انتهى تسييره المباشر للحزب ، فإن عاطفة الأمومة أو الأبوة لا يمكن إنكار استمرارها ، حيث يمكن للفرد العادي هنا أن يتصور بأن رضاعة “البام” ما تزال مستمرة في الخفاء ، حتى يبلغ أشده، و يكون بالطبع بارا لوالده صديق الملك .

وهكذا يمكن القول بأن هناك خطأ ما ارتكب منذ البداية يتمثل أساسا في قبول نزول مسؤول من منصب حساس ليخوض وحل السياسة، و يجر على سمعة الخيار الديموقراطي الكثير من القيل و القال بشكل يغذي الشكوك و يفتح المجال للكثير من الكلام ، و للكثير من الاستغلال السياسي لمثل هكذا تدخل في غمرة التطلعات الديموقراطية الحماسية للشعب المغربي.

أما الآن و قد حصل ما حصل، و حتى تتفادى المؤسسة الملكية المزيد من الصدام ، من الأفضل أن تترك مسافة الأمان الكافية بينها و بين المشهد السياسي ككل، فالتصريحات السياسية المسؤولة و غير المسؤولة كثيرة و غزيرة ، و كم من البلاغات يكفي ؟ و كم من الغضبات يكفي ؟ و كم من تخصيص للخطاب يكفي؟ بل أن تدقيقها في القيل و القال و ردها الرسمي و غير الرسمي على فلان و فلان قد يجرها تدريجيا إلى التخندق الإديلوجي و السياسي من حيث لا تشعر أو من حيث لا تقصد ذلك.

ومن الأفضل كذلك أن تنوع في اختيار المستشارين بين ليبراليين وتقنوقراطيين و اسلاميين… ، مع التركيز على تجنب أولئك الذين لهم سوابق سياسية غليظة، أو على الأقل عدم تركيز اهتمامها الإعلامي و الرسمي على مستشار واحد بعينه يصير بكل ما له توجهات مقرونا باسم الملك إلى درجة يصير فيها نائبا عنه في كل شيء في المخيال الشعبي و السياسي.