وجهة نظر

هل هو زمن الفنتازيا أم ذائقتنا في خطر؟

من الملاحظ انتشار قراءة الرواية في صفوف الشباب واليافعين، بل والملاحظ أكثر كذلك أنهم يقرؤون نمطا واحدا منها فقط، وهو نمط الرواية العجائبية أو ما يصطلح عليه بالفنتازيا. في حين أن الأصل هو قراءة الكتب الفكرية المؤسسة والأدب الجاد المحبوك أسلوبا وسردا لغة وبناء، خصوصا وأن المرحلة مرحلة بناء، ومراحل بناء الذهن والفكر شأنها شأن مراحل بناء الجسم من حيث القياس، فكما أن الوجبات السريعة لا تبني جسما ولا ترم عظما، فكذلك الكتب الخفيفة، فشتان بين غذاء متكامل ووجبة سريعة، كذا شتان بين رواية لنجيب محفوظ وخربشة لأسامة المسلم.

فرغم فرحنا وانشراحنا لرؤية شاب يتأبط كتابا في هذا السياق الذي ندركه جميعا، إلا أنه سرعان ما يتبادر إلى الذهن سؤال نوع القراءة وكمها، سؤال القراءة الصحية مهم كسؤال الأكل الصحي.

إن الإقبال على فعل القراءة في حد ذاته أمر محمود، خصوصا في زمن الاغتراب عن الواقع الذي يعيشه جيل وسائط التواصل الاجتماعي، هذه الفضاءات البديلة التي يلج إليها اليافعون والشباب، فرارا من توابع المسؤولية، ومن رنين صوت الارشادات التي يكررها على مسامعهم الآباء والموجهون، الذين يتصدون لهم بالمرصاد حاملين أقلامهم الحمراء، تنبيها على كل ما يرونه مخالفا للنمط ومتجاوزا للسائد المألوف اجتماعيا وثقافيا.

فسلطة الأب هذه التي تتابع المراهق في كل مكان، والتي يسعى للانتفاض في وجهها تعبيرا للرفض، ويتلمس طرائق لاجتنابها ما أمكن. هذا الجيل لا ندري أهو سيء الحظ أم حسنه، ولد في زمان ديمقراطية هذه الوسائط وشيوعها، في زمن الافتراضي، مما فتحت لهم هذا الوسائط فرصة للهروب من الواقع، حيث الذات مراقبة وموجهة وحركتها مقيدة، بالواجب والقيم والتوجيه، إلى المواقع حيث الحرية، حرية الكلمة والفعل والصورة والبث، حيث لا سلطة للأب على الحساب الشخصي، بل لا سلطة للمجتمع الافتراضي. فإذا كانت للمجتمع الواقعي سلطة رفض الفرد وتأنبيه.  فللفرد في المواقع سلطة السحب من لائحة الصداقة أو سلطة المنع وحجب المتابعة، وهذا ما يرغب فيه المراهق، الرغبة في اختيار المسموع والمرئي والمتابع، رغم وجود الخوارزميات التي تفرض عليك المحتوى، لكنه فرض من حيث العرض، لا فرض من حيث الاستماع، فإن أعجبك واصل المتابعة، وإلا انصرف لغيره. هذه الخاصية لا توجد في الواقع، فليس في مقدور الابن أن يجعل أباه في وضعية الصامت، ولا أن يخفض له من مستوى الصوت، ولا أن يقوم بتفعيل خاصية البلوك (المنع من قائمة الأصدقاء).

إن هذا الجيل السائل في هذا السياق السائل، الذي انحصرت فيه السرديات الكبرى، وتنامت فيه ثقافة الرقمي والسريع، وطغت فيه ثقافة المشاهد واستفحلت فيه ثقافة الفرجة، فمن الطبيعي أن يقبل فيه اليافعين على روايات الفنتازيا ويهملوا فيه روايات الواقعية الاجتماعية أو الرواية الفلسفية التأملية، من الطبيعي أن يهمل الشباب روايات العملاق نجيب محفوظـ، الحائز على نوبل ( نجيب محفوظ عملاق بنوبل أو من دونها) الكبرى في الأدب، والكبير عبد الرحمن منيف والمبدع الناطق باسم الصحراء إبراهيم الكوني، ويهتموا بأسامة المسلم وعمرو عبد الحميد، روايات الجن والعفاريت الزرقاء.

فهو أمر طبيعي هذا التغير الذي أصاب الذوق العام، ليس فقط في باب الرواية، فحيثما يممت وجهك، في السياسة وفي الفن وفي العلوم الاجتماعية والدينيةـ في كل شيء، تجد أن أعدل شيئا قسمة في هذه المجالات هي السيولة،

ففي زمن كان فيه التراثي الأصيل عالم بميراثه، والحداثي المنفتح مطلع على موضوعاته، فزمن الكبار الذين تربعوا على عرش الأدب والفكر كعباس محمود العقاد ومحمود شاكر وحافظ إبراهيم والمازني ونجيب محفوظ ويحيى حقي وقاسم أمين وسلامة موسى وعلي عبد الرزاق وزكي نجب محمود، كل هذه الأسماء الرائدة في ميدان الإبداع مع الاختلاف الحاصل بينها في منظورها للمواضيع من وجهتي التراث والحداثة .

في زمن الصلابة  الذي كان فيه  الأصيل أصيلا  والحديث حديثا بالحق ، وإن اختلفت  مع أحدهم لكن لا يمكن أن تشك في عمق في كره ومكنته واستيعابه . أما والآن فلا أحد يزن ما ذكرنا من الأسماء السالفة ولا  عشر معشارها، في المعسكرين والطرفين والمنظورين، ولنلقي نظرة على الأسماء المتداولة التي تصل أسماعنا، فهي إما صنيعة الأجهزة أو صنيعة مواقع التواصل الاجتماعي، ولولا هذه المنصات الإلكترونية التواصلية أكاد أجزم ما كان يعرفها أحد، يكتبون كتابا يشهروه في المواقع يختطفه المراهقون ، خصوصا المراهقات، فيصير مشهورا،  ومما يزيد شهرته أحيانا الدعاية المجانية التي يخلقها  التفاعل الإعلامي السلبي ، ولا أدل على ذلك من فانتازيات أسامة المسلم، التي شهرها المراهقون ومواقع التواصل، ولولاهما لما عرفه أحد بل ولا قرأه  أبناء بلده، وأظن أن السعوديون أنفسهم لا يقرؤونه.

في زمن الصلابة كان بين الكاتب وكتابه والانتشار، بون شاسع، من الإبداع والتلقي القرائي من نقاد الفن، فالكاتب لم يكن يكتب ليكتب وفقط على حد قول البرازيلي باولو كويلو (الكتاب يكتبون، والنقاد ينقدون، والقراء يقرؤون) ، بل كانت الغاية من وراء الإبداع، خلق المعنى في نفس القارئ، المعنى الثاوي في ثنايا السرد. فلم يكن السرد إمتاع ومؤانسة، تتحرك الشخوص لتلعب دور الونيس في المجالسة، بل على العكس من ذلك أو بالإضافة إليه، تحريك الوجدان وزحزحة المدركات وخلق السؤال، وتحريك الدهشة الطفولية لمساءلة البديهيات، أو ما كان يخيل لنا انها من البديهيات. ألم يفكك نجيب محفوظ في ثلاثيته بنية المجتمع المصري في أحياء القاهرة القديمةـ ألم يفك شفرة الأب الشرقي المزدوج، السلطوي في البيت الضحوك مع الصحاب والرفيقات والرفاق؟ ألم يفكك جدل القديم والحديث العصري والتقليدي الديني والعلمي يحيى حقي في روايته (قنديل أم هاشم)؟ ألم يغص دوستويفسكي في أغورا النفس البشرية؟ ألم يكن ملهما لسيغموند فرويد في نظريته؟ ألم يقل فيلسوف المطرقة نيتشه عن دوستويفسكي إنه هو الوحيد الذي علمني شيئا من السيكولوجيا،

ماذا استفدت من قراءة أونتيخريستوس؟ أو ترهات الفانتازيا الشبابية التي تتناسل كالفِطر، يكفي فقط أن تكتب عن جن أرزق يسرق طفلا ليصير قردا مائي، يكفيك هذا المشهد المقزز وأن تصبح روائيا، وتعد لك حفلات التوقيعات التي يحضرها أصدقاء الدراسة مجاملةـ والذين لن يقرؤوا لك طبعا، ومعجباتك على الانستغرام وفايسبوك.

ألم يقولوا بأن الرواية هي الحياة؟

أين هي الحياة وواقعها؟ أين هو الإنسان في روايات الفنتازيا؟

أليست الرواية انعكاس للوجود، أليس الراوي صاحب نبوءة بمجتمع ينوجد في خياله ووجدانه، أليست شخصيات هذه النبوءة قيما تبحث لنفسها عن مكان في الوجود السردي أو سرد الوجود؟

أين هم النقاد من هذا العبث؟ أين هي مسؤولياتهم تجاه الذائقة العامة؟ أين هم رسل القلم وصناع العوالم وأنبياء الإبداع من هذه التفاهات التي تملء فراغ ما تبقى من عقل شبابنا الفارغ بفراغها، وهنا أتذكر كلمة للعربي بطمة، عن الإبداع والمبدع حيث قال (على المبدع أن يكون مملوءً بالفراغ) ولعله يقصد الفراغ مما يكدر صفو الإبداع، لا الفراغ الذي تخلقه روايات الفنتازيا الشبابية المتداولة.

سريعا ولكيلا يظن ظان أني ضد الفنتازيا كنمط وجنس روائي، لا أروم هذا الروم، ولعل القارئ يعلم مقصدي ومقصودي، فهل يعقل أن أناقش غرائبيات غابريال غارسيا ماركيز في رائعته (مائة عام من العزلة)؟ لا أظن عاقلا يقول هذا (وإن كانت الأذواق لا تناقش، لكن على العظمة يجمع العقلاء) وهل يظن أن تناقش حي بني يقظان لابن طفيل، أو غيرها من العجائبيات المكتنزة بالمعنى.

إن القراءة فعل نوعي وكمي، بل هي فعل نوعي أساسا، فاذا كنا نفرح بإقبال الشباب عليها، فإننا نود لفرحتنا هذه أن تكتمل، حينما نجدهم يقرؤون أعمال جادة، ترتقي بوعيهم وفكرهم وتعلي من رجاحة عقلهم وسرعة بديهتهم ودقة نظرهم، وتحصنهم من بلادة الحس. كتبا تناقش المعنى وتبسط خطوات تلمسه وإدراكه، وتطرح الأسئلة الحقيقة وترنوا الإجابة عنها، وكذا أعمال أدبية تحاكي الوجود خلقا وإبداعا وتعمق الشعور والوجود الاجتماعي وتسبر أغوار النفس الإنسانية وتناقضاتها كما تهذب ذائقتنا اللغوية، بلغة وسيطة تداولية تجتنب الغريب والوحشي من الكلام وكذا الركيك المبتذل، وتصور الواقع كما هو وكما ترجوه أن يكون من دون إسفاف في الوصف بله أن يكون الإسفاف مقصودا كما هي الأعمال الأدبية الجادة.

عبد الكريم حنين

مختص تربوي بقطاع التعليم  

تعليقات الزوار