وجهة نظر

من الجزائر إلى رفح: قافلة في مهمة كسر المنطق

في الوقت الذي كانت فيه شعوب المنطقة تتابع بقلق ما يجري في غزة، قررت السلطات الجزائرية أن تواسي نفسها بقافلة رمزية سمتها “قافلة كسر الحصار”. لكن الحقيقة أن هذه القافلة، التي أثارت ضجة أكبر من وزنها السياسي، لم تكسر الحصار الإسرائيلي بقدر ما كسرت قواعد المنطق السياسي والاحترام السيادي، وتحولت إلى فصل جديد من فصول استغلال القضية الفلسطينية في مهزلة دعائية إقليمية.

السلطات الجزائرية، التي تمنع مواطنيها من التظاهر السلمي في شوارع العاصمة دعماً لغزة، قررت فجأة أن تسمح لمجموعة مختارة – أو بالأحرى مُصفّاة بعناية – من الناشطين “الرسميين” بالسفر خارج الحدود في قافلة يُفترض أنها تتوجه إلى معبر رفح. كأنما التضامن لا يُعبَّر عنه من الداخل، بل عبر الحدود، وبحافلات تحمل شعارات محفوظة وكاميرات تُوثق كل خطوة، لا حبًا في فلسطين، بل عشقًا في عدسة المونتاج.

وكالعادة، لم تفوّت قناة “الجزيرة” الفرصة. حوّلت القافلة إلى ملحمة مصورة، أقرب إلى تغطية “فتح الأندلس من جهة سيناء”، بكاميرا متحركة، ومراسل ميداني يصف الموكب كما لو كان زحفًا شعبيًا لا يُقاوم. لم تُخبر القناة مشاهديها أن القافلة لا تحمل سوى أوراقًا ورايات، ولا تملك تصريح عبور، ولا خطة واضحة، ولا حتى جدولًا زمنيًا. لكنها تعرف كيف تُغلف الهزل بلحن النصر وتُحوّل الفشل إلى “خطوة رمزية على طريق التحرير الطويل!”

ولأن العرض يجب أن يكون بـ”نكهة مغاربية كاملة”، لم يتأخر الرئيس التونسي قيس سعيّد عن الحضور الرمزي، عبر إرسال من يضمن استمرار الإيقاع الخطابي المعروف: كثير من المواقف المرتجلة، وقليل جدًا من الواقعية.

لكن ما أضفى على هذا العرض طابع السخرية الباهظ، هو التحاق مجموعة من الانتهازيين المغاربة بهذه القافلة، وقد وصلوا فعلاً إلى القاهرة، وكلهم حماسة للمشاركة في العرض الكبير. المفاجأة؟ السلطات المصرية، المعروفة بصرامتها تجاه أي عبث سياسي على حدودها، عرضت عليهم خيارين لا ثالث لهما: العودة إلى بلدهم بهدوء، أو دخول السجن.
فلم يترددوا كثيرًا، عادوا بصمت مُهين، دون شعارات، دون لايفات، ودون حتى تغريدة “سنعود أقوى”.
هؤلاء الذين يُنظّرون يوميًا في المغرب عن المقاومة والكرامة، تبيّن أنهم “مناضلون منزليّون يعملون بالبطاريات المحلية، ويصابون بالشلل خارج التغطية.”

القافلة لم تكسر الحصار، ولم تقترب حتى من معبره، لكنها كشفت الكثير: كشفت كيف أن بعض الأنظمة العربية تُفضل التضامن مع فلسطين عندما يكون آمنًا، خارجيًا، ومُحاطًا بالكاميرات، لا حين يطالب به المواطنون في الشوارع. كشفت أيضًا كيف أن بعض النخب السياسية تسافر إلى “النضال” كما يسافر الناس إلى عطلة مؤقتة: بابتسامة، وعود سريعة، وصفر مسؤولية

غزة لا تنتظر قوافل تُمنع من الوصول، ولا شعارات تُطلق من خلف الميكروفونات. غزة تنتظر مواقف… وأقل ما فيها أن تُفتح الميادين الحقيقية، لا أن تُملأ الشاشات بلقطات دعائية من قوافل موسمية.

أما هذه القافلة؟
فما كانت إلا تجسيدًا فنيًا ساخرًا لمشهد سياسي مترهل… من الجزائر إلى رفح، مرورًا باستوديوهات الجزيرة.

تعليقات الزوار