تُعد مسألة التوازن المجالي وإعادة توزيع الكثافة السكانية أحد الرهانات الكبرى في السياسات الترابية المعاصرة، لا سيما في الدول التي تواجه تحديات على مستوى السيادة أو التنمية الحدودية. وفي هذا السياق يواجه المغرب في إطار دفاعه عن وحدته الترابية، تحديًا ديموغرافيًا واضحًا في أقاليمه الجنوبية، وخاصة جهة الداخلة وادي الذهب. فبينما تتصاعد التحديات الجيوسياسية والضغوط الدبلوماسية، يظل التوطين السكاني وتوسيع القاعدة البشرية خيارًا استراتيجيًا لدعم الارتباط الوطني وتحصين الأمن الترابي.
أولًا: جهود المغرب في تثبيت الاستقرار الديموغرافي والتنمية بالأقاليم الجنوبية
راهن المغرب منذ استرجاع أقاليمه الجنوبية على سياسة الهندسة الديموغرافية كأداة لتعزيز السيادة وترسيخ الاستقرار في الصحراء المغربية. وقد بذلت الدولة مجهودًا كبيرًا في هذا الاتجاه، من خلال تطوير البنية التحتية وتحفيز الاستقرار البشري ودعم الأنشطة الاقتصادية. ومكّن هذا التوجه من خلق دينامية سكانية واقتصادية ملحوظة، خاصة في مدن مثل الداخلة والعيون، وأسهم في تقوية الارتباط بالوطن وتعزيز الانخراط في المشروع التنموي الوطني.
ومع ذلك تبقى هذه المجهودات على أهميتها غير كافية لمواجهة التحديات المتعددة، خصوصًا ما يتعلق بالتوازن المجالي، والفراغ السكاني في المناطق الساحلية والداخلية، وضرورة بناء أقطاب حضرية جديدة تضمن توزيعًا عادلًا للسكان والفرص. لذا فإن التحدي اليوم يتمثل في الانتقال من سياسة التمركز إلى سياسة التوطين المستدام والمتوازن.
ثانيًا: الوضع الديموغرافي الحالي بجهة الداخلة وادي الذهب: هشاشة سكانية في منطقة استراتيجية
تشير الإحصائيات الأخيرة إلى أن جهة الداخلة وادي الذهب تضم نحو 219 ألف نسمة، يتركز حوالي 164 ألفًا منهم في مدينة الداخلة وحدها. ويعكس هذا التوزيع السكاني نموًا كمّيًا ملحوظًا ومخططًا له بين سنتي 1982 و2024، إذ ارتفع عدد السكان من 21,496 نسمة إلى 219,965 نسمة.
ورغم أهمية هذا النمو، إلا أنه لم يرافق بتوزيع مجالي متوازن، حيث يتركز نحو 86% من سكان الجهة في مدينة الداخلة، الواقعة على لسان بحري هش بيئيًا ومحدود التوسع. في المقابل يبقى الجزء الأكبر من مساحة الجهة شبه خالٍ من السكان، رغم توفره على مؤهلات طبيعية وساحلية كبيرة.
ويرجع هذا الاختلال المجالي ليس فقط إلى غياب سياسة توزيع سكاني فعالة، بل أيضًا إلى عدم استثمار الفئات غير المستقرة في الجهة، والتي تُقدّر بحوالي 27,508 نسمة، تشمل الرحل، والمقيمين في الثكنات العسكرية، والعمال المؤقتين. كما تسجّل الجهة وجود 5,846 أجنبياً، ما يطرح تحديات إضافية في مجال الاندماج الاجتماعي والهوية.
في هذا السياق، تمثل هذه الفئات غير المستقرة، إلى جانب الموظفين المدنيين والعسكريين والصيادين القادمين من شمال المملكة ومختلف العابرين، طاقة ديموغرافية كامنة يمكن توجيهها عبر سياسات تحفيزية نحو الاستقرار الدائم. ويتطلب ذلك اعتماد برامج شاملة تشمل تمليك السكن، وتطوير المرافق الاجتماعية، وتوفير التعليم لأسرهم، وإحداث أقطاب حضرية بديلة على الشريط الساحلي أو في عمق الجهة، بما يسهم في إعادة التوازن المجالي وتعزيز الاستقرار والدينامية الاقتصادية.
ثالثًا: أهمية الهندسة الديموغرافية في الدفاع عن السيادة الترابية
يُعد التوطين السكاني أداة جيوسياسية فعالة تعتمدها الدول لتعزيز سيادتها في المناطق الحدودية أو المتنازع عليها، خاصة في ظل التهديدات الأمنية والانفصالية. فقد وظّفت الصين هذه السياسة في أقاليم مثل شينجيانغ والتبت لتعزيز الانتماء الوطني عبر خلق واقع سكاني جديد مدعوم بالبنيات التحتية، كما أنشأت مدنًا حديثة مثل “شينزن” لدمج الهوامش في الاقتصاد الوطني. وبالمثل اعتمدت تركيا على التوطين في جنوبها الشرقي ضمن مقاربة “الأمن عبر التنمية” لاحتواء التوترات ودمج الأقاليم ذات الأغلبية الكردية في النسيج الوطني.
وتبرز هذه التجارب كيف أن الهندسة الديموغرافية تتجاوز بعدها التنموي لتغدو خيارًا سياديًا. وفي السياق المغربي، يُعد التوطين السكاني الممنهج في جهة الداخلة وادي الذهب رهانًا استراتيجيًا لضمان الاستقرار وتعزيز السيادة في مواجهة الفراغ المجالي والهشاشة الديموغرافية.
رابعًا: المؤهلات المهملة والفرص الممكنة
تتوفر جهة الداخلة وادي الذهب على رصيد استراتيجي متنوع يمكّنها من أن تتحول إلى قطب تنموي وصناعي متكامل، إذا ما تم تفعيل رؤية عمرانية واقتصادية مندمجة. فإلى جانب امتدادها الساحلي الذي يتجاوز 600 كيلومتر والغني بالثروات البحرية، تبرز مراكز مثل العركوب إمليلي بئر الكندوز… وقرى الصيد مثل انتيرفت، لبيردة، وإمطلان امهيريز… كنقاط تماس مجالية بين الإنسان والموارد، مما يمنحها قابلية عالية للتحول إلى مدن ومراكز حضرية، شريطة تجهيزها بالبنيات الأساسية وربطها بمشاريع مهيكلة في مجالات الماء، والطاقة، والصناعة.
وفي هذا الإطار، تبرز إمكانية تحلية مياه البحر كحل عملي لتجاوز إكراه نُدرة المياه، وهو ما سيُوفر قاعدة مائية ثابتة تدعم الاستقرار البشري والفلاحي والصناعي. كما أن اعتماد الطاقات المتجددة، خاصة الريحية والشمسية، التي تزخر بها الجهة، يتيح خلق بنية تحتية طاقية مستدامة تؤمن الحاجيات المحلية وتُحفز الاستثمار.
من جهة أخرى، فإن تحويل الجهة إلى منصة للصناعات الغذائية (تثمين منتجات البحر والمنتجات الحيوانية)، وصناعة النسيج، والأواني المنزلية، وغيرها من الصناعات كثيفة التشغيل، يمثل مدخلاً حاسمًا لخلق فرص العمل وجذب السكان نحو المناطق غير الآهلة بالسكان، وتقليص البطالة بالجهات الشمالية المكتظة.
ويُعد الموقع الجغرافي للجهة كبوابة نحو إفريقيا جنوب الصحراء عاملاً جيو-اقتصاديًا أساسيًا لتوجيه هذه الصناعات نحو التصدير إلى إفريقيا، ضمن منطق تعاون جنوب-جنوب يعزز الاندماج الإقليمي ويعزز الدور الريادي للمغرب في القارة.
إن تفعيل هذه الرؤية يقتضي تعبئة متعددة المستويات تشمل التخطيط المجالي، والاستثمار العمومي والخاص، والتكوين المهني، والدبلوماسية الاقتصادية، لجعل الداخلة ومحيطها مجالًا مأهولًا ومنتجًا، يحقق التوازن المجالي ويعزز السيادة الترابية من خلال التنمية المندمجة والاستقرار البشري.
خامسًا: الهندسة الديموغرافية كرافعة لتجديد النخب وتعزيز الحكامة المحلية
إن تشجيع الاستقرار البشري في جهة الداخلة وادي الذهب، ضمن رؤية استراتيجية للهندسة الديموغرافية، لا يقتصر فقط على تعزيز الحضور السكاني وترسيخ السيادة الترابية، بل يشكل أيضًا فرصة تاريخية لتجديد النخب بالمنطقة. إذ إن توسيع القاعدة السكانية وتنويع الخلفيات الاجتماعية والمهنية للوافدين سيساهم تدريجيًا في بروز طاقات جديدة، أكثر ارتباطًا برهانات التنمية، وأكثر قدرة على تدبير الشأن العام بروح وطنية وحديثة. فحين يُعمر المجال ويتحول إلى قطب جذب اقتصادي واجتماعي، يُنتج بطبيعته نُخبه الجديدة من أطر، ومهنيين، ومثقفين، قادرين على تجاوز البنيات التقليدية، وإعطاء نَفَس ديمقراطي ومؤسساتي متجدد للجهة، يخدم مصالحها في إطار المشروع الوطني الشامل.
إن التحدي في الصحراء المغربية لم يعد محصورًا في الجوانب الدبلوماسية أو العسكرية، بل أصبح يتطلب بناء مجتمع مستقر، منتج، ومندمج في المشروع الوطني. فالهندسة الديموغرافية، ليست مجرد سياسة عددية، بل خيار استراتيجي لبناء مجال منيع ومتوازن.
لذلك، تفرض المرحلة تبني الدولة لرؤية ترابية شاملة، تجعل من التوطين السكاني محورًا لكل السياسات التنموية بالأقاليم الجنوبية، بما يضمن تحقيق السيادة الفعلية عبر الاستقرار البشري، وتحويل المجال إلى فضاء نابض بالحياة، لا مجرد نقطة على خريطة جيوسياسية.