منتدى العمق

أثر الدعاية الصهيوأمريكية على الإعلام المغربي: تحليل على ضوء طروحات جورج لايكوف

منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، شهدنا تصاعدًا في هيمنة خطاب سياسي وإعلامي يُعيد تشكيل الإدراك الجماعي للصراعات الجيوسياسية في المنطقة العربية. في هذا السياق، يحتل الخطاب الصهيوأمريكي المعادي لإيران موقعًا مركزيًا، ليس فقط في السياسات الرسمية، بل في إنتاج المعنى الإعلامي داخل الفضاء العمومي العربي، بما في ذلك الإعلام المغربي.

بناءً على نظرية جورج لايكوف حول الاستعارات المفهومية، كما جاءت في كتابه “الاستعارات التي نحيا بها” (1980) ومقاله “الاستعارات التي تقتل” (1991)، سنلقي الضوء على كيفية تسلل هذا الخطاب إلى الإعلام المغربي، والآثار الرمزية والسياسية المترتبة عليه.

يفترض لايكوف أن الاستعارات ليست مجرد صور بلاغية، بل هي بنى معرفية تُبنى داخل العقل البشري لتنظيم الفهم والتصرف. ما يعني أن الاستعارات السياسية تُوجّه الإدراك العام، وتُنتج ما يسميه “الواقع المجازي” الذي يصبح أكثر تأثيرًا من الوقائع المادية نفسها. في هذا الإطار، تُبنى السياسة الخارجية للولايات المتحدة – وحلفائها – على منظومات مجازية مثل: “الدول كأشخاص”، “الشر كمرض”، “الحرب كعلاج”، وهي الاستعارات التي تشكل المنظور العام تجاه إيران. كما يميز لايكوف بين استعارات مفهومية عادية وأخرى قاتلة، تنزع الطابع الأخلاقي من السياسة وتحوّلها إلى أداة تدمير مبررة.

هكذا تُستخدم الاستعارات المجازية لتصوير إيران كخطر داهم، في إطار خطاب يقوم على تبسيط الواقع وإعادة ترميز الصراع. ومن أبرز المجازات:

1. إيران كفيروس: تُستخدم مصطلحات مثل “السرطان الإيراني”، “التمدد الشيعي”، وهي استعارات بيولوجية تُقدّم إيران كعدوى تهدد الجسد الإقليمي، وتستدعي التدخل السريع لعزلها.

2. إيران كفاعل غير عقلاني: تعبيرات مثل “النظام الإيراني المتطرف”، أو “السلوك الانتحاري”، ترسم صورة لدولة غير قابلة للتفاوض، ما يُبرر الردع العسكري ويُلغي المساعي الدبلوماسية.

3. إيران كبلطجي دولي: تُستخدم استعارات تُربط بالجريمة المنظمة، كـ”أذرع إيران الإرهابية”، ما يُضفي شرعية على العقوبات والضربات الاستباقية، باعتبارها إجراءات أمنية لا سياسية.

منذ إعلان تطبيع العلاقات بين المغرب وإسرائيل في ديسمبر 2020، بدأ التحول التدريجي في الخطاب الإعلامي المغربي، خصوصا في الصحف الكبرى والمواقع الإلكترونية ذات التمويل الخارجي. يظهر هذا التحول في:

1. استيراد المجازات الجاهزة: تتكرر استعارات من قبيل “الخطر الإيراني”، “التوغل الشيعي في شمال إفريقيا”، و”الدور التخريبي لطهران”، وهي صيغ مجازية تُنقل من الخطاب الأمريكي والإسرائيلي دون نقد أو تحوير.

2. التماهي مع السردية الإسرائيلية: تُصوّر إسرائيل كشريك في الحرب على “التطرف الإيراني”، ويُعاد تأطير العداء في المنطقة على أساس مذهبي بدلًا من الصراع مع الاحتلال، مما يعزز تحولات في البوصلة السياسية.

3. نزع السياق: يتم الحديث عن إيران بمعزل عن صراعاتها الدفاعية أو علاقتها بالمقاومة الفلسطينية واللبنانية، فيُنتج خطاب مبتور وسياقيًا مضلل، يُخفي الأبعاد الاستراتيجية للصراع.

يتجاوز أثر الاستعارات المجازية حدود اللغة ليبلغ مستويات عميقة من تشكيل الوعي:

– تشويه المفاهيم: يتم قلب مفاهيم مثل المقاومة والهيمنة والمصلحة الوطنية، فتُقدَّم إيران كعدو والمحتل كحليف.

– تصعيد الاستقطاب: تُعمّق الاستعارات الانقسام المذهبي والإيديولوجي، ما يسهل عملية فرز الاصطفافات الإقليمية.

– فرض الإجماع: يُصاغ الخطاب بعبارات حتمية، تمنع الرأي الآخر وتُنتج حالة من الامتثال الرمزي.

خامسًا: النتائج الرمزية – كيف تقتل الاستعارات الوعي؟ الخطورة لا تكمن فقط في الصورة التي تُبنى عن إيران، بل في الأثر الذي تُحدثه هذه الاستعارات في الوعي الجمعي:

– قتل التعاطف: الاستعارات البيولوجية (كالسرطان والعدوى) تنزع البُعد الإنساني عن الإيراني، وتُحوّله إلى تهديد.

– اختزال الصراع: تُلغى الأسباب التاريخية والاقتصادية والسياسية للصراع، ويُستبدل التحليل بالتجريم المجازي.

– تبرير العنف: تُقدَّم الحرب كعلاج ضروري، والعقوبات كأداة طبية لعلاج “المنطقة” من “المرض الإيراني”.

– تحويل الموقف النقدي إلى خيانة: يتم وصم أي موقف يرفض هذه السردية بالتواطؤ أو التأييد للعدو، ما يغلق المجال أمام التفكير النقدي.

يفتح تحليل لايكوف المجال ليس فقط لفهم كيفية اشتغال الخطاب المجازي، بل أيضًا لبلورة خطاب مضاد. ويمكن ذلك من خلال:

– تفكيك الاستعارات المهيمنة: كشف بنيتها ونقلها من مستوى اللاوعي إلى النقد.

– بناء استعارات بديلة: كتصوير إيران كفاعل مقاوم، أو كقوة سيادية تُناهض الهيمنة الغربية، ما يُعيد رسم خريطة العدو والصديق.

– إعادة تأطير القضايا: تحرير القاموس الإعلامي من القوالب الجاهزة، وإعادة ربط الخطاب بسياقه التاريخي والجغرافي والسياسي.

-تعزيز الوعي النقدي: عبر إدماج تحليل المجاز في التعليم والإعلام، كوسيلة لتقوية مناعة الوعي ضد عمليات التلاعب الرمزي.

يكشف تحليل الخطاب الإعلامي المغربي تجاه إيران عن مدى تغلغل الاستعارات التي تقتل، وهي استعارات لا تنقل الحقيقة بل تصنعها، وتُبرر من خلالها العنف والاصطفاف. هذه الاستعارات تنتج عدوًا رمزيًا يُوظّف لتبرير التحالفات الجيوسياسية وتصفية الحسابات الإيديولوجية. أمام هذا التحدي، تصبح نظرية لايكوف أداة نقدية واستراتيجية تحررية، تُعيد الاعتبار للكلمة بوصفها موقعًا للصراع، وساحة للمقاومة الرمزية، لا تقل أهمية عن أي ميدان آخر. كما تبرز الحاجة إلى خطاب إعلامي بديل يقطع مع التبعية المفهومية، ويعيد بناء مجازاته انطلاقًا من مصالح الشعوب وذاكرتها التاريخية.

تعليقات الزوار