لا زال الفراقشية ينهلون من صدر الوطن دون الالتفات إلى أن هذا الصدر حق للجميع. تعودوا على الوصول إلى مراكز القرار مباشرة أو بطريقة غير مباشرة. امتلكوا الكراسي أو ساعدوا بيادقهم على السيطرة عليها، ومن ثم فتحوا قنوات الوصول إلى الاستفادة من المال العام بمبالغ تتجاوز سنوياً 600 مليار درهم، واستفادوا من عقارات الوطن، ومن خيرات بحار الوطن، ومن مقالع الوطن دون أن يعطوا شيئاً للوطن. يعود تاريخ واقع يومنا ليسجل رجوع حليمة إلى عادتها القديمة.
رحل إدريس البصري إلى دار البقاء، ولا زال الموالون له، من غير أبنائه من صلبه، حاضرون بيننا، ويصرون على أن “ينغصوا” علينا حاضرنا، ويعبثون بكل الوسائل التي يمكن أن نبني بها مستقبلنا. اشتد الصراع على احتلال المواقع بكل الوسائل. وتنوع الخطاب السياساوي دون أن يفتقد بوصلة تشير إلى شمال جغرافي واجتماعي مذر للثروات، وإلى تبني خطابات تشرعن الاغتناء غير المشروع، وتشيطن كل الأصوات التي تحب الوطن ومؤسساته، ولا تطالب إلا بتنزيل مبادئ الدستور المتعلقة بالعدالة الاجتماعية والمجالية، وربط المسؤولية بالمحاسبة، واستقلال السلطة القضائية، والحفاظ على دور المجتمع المدني، والسعي إلى تنظيف البلاد ممن يحاربون وحدتها عبر تسلطهم، والزج بالديمقراطية إلى أسواق استغلال الفقر لصنع الأغلبيات في المؤسسات المنتخبة. صحيح جداً أن البينة على من ادعى، ولكن سد الطريق على الجمعيات للترافع في ملفات الفساد يقفل كل الأبواب على الولوج إلى المعلومة التي تدعم البينة. ماذا فعلنا بمئات الآلاف من التصريح بالممتلكات، وماذا فعلنا لكي نحاسب كل من ظهرت عليه معالم الاغتناء غير المشروع. وتزيد قدرة الفاسدين على إنتاج خطاب يدعو إلى اعتبار من يحارب الفساد ناقماً عن الوطن، وخائناً يريد تدمير مسار ديمقراطي. الديمقراطية يا خريجي مدارس “الفراقشية” تقتضي المحاسبة والقدرة على الجواب على سؤال: “من أين لك هذا؟”. الديمقراطية الحقة هي التي تضع الشفافية في صلب تدبير الشأن العام. يمكن لكل مواطن أوروبي أن يطلع على ممتلكات وحسابات المسؤول السياسي عبر بوابة مفتوحة للجميع.
وهكذا يستمر تطوير شبكات إفساد المجتمع والسياسة والاقتصاد، ويستمر معها ظهور كائنات تكاد تنفي الانتماء للوطن عن كل من يفضح أسس وجودها. ولكل ما سبق لا يمكن قراءة “ثقافة التفرقيش” عن اقتصاد الريع، وعن تفشي الرشوة، وعن الاغتناء غير المشروع، وعن إضعاف المؤسسات التمثيلية، وعن صنع الأغلبيات، وعن ضعف المنافسة في كثير من القطاعات الاقتصادية، وبالأخص عن كفر المواطن بأهمية كثير من المؤسسات وعلى رأسها مؤسسة الانتخابات.
وسيظل يومنا مدلهماً في وجود من يغتنون بمجرد احتلالهم لمواقع التسلط على المواطن. هؤلاء المفسدون لا يخيفهم مراقب ولا يعتقدون أن وقت تنزيل المحاسبة الدستورية قد حان. هؤلاء يعتبرون أنفسهم أقوياء، وفوق كل القوانين والمؤسسات. تتوسع أملاكهم وتنتفخ حساباتهم البنكية، ويصل بعضهم إلى الحضيض بعد حكم قضائي، ويظل جلهم يعتلي منابر الخطاب البرلماني والجهوي والجماعي. ويظلون ممن يعتبرون أنفسهم من المنعم عليهم بحصانة لا تقاوم. استبشر المواطنون قبل شهور بتنزيل الأحكام القضائية، بعد سنين من التقاضي، ولا زالوا ينتظرون حماية المغرب ممن يشكلون خطراً على سمعته، وعلى مؤسساته. ويجدون في قيادات أحزابهم حماية كبرى، إلى حين اقترابهم من منطقة الأخطار المؤدية إلى السجن.
حدث قبل شهور قليلة أن وقفنا جميعاً على فضيحة صرف ملايير من الدراهم كان محورها “الخروف”. يظل هذا الأخير ضحية “الفراقشية” الكبار رغم أنه كان، ربما، يتمنى أن يكون أضحية لا يتدخل فيها المضاربون، والغشاشون، وناهبو المال العام. وأكد زعيم سياسي من التحالف الحكومي أن هناك أقلية استغلت مالاً عاماً كبيراً دون أن يكون لهذا الاستغلال أثر على سعر اللحوم الحمراء. وسيظل هؤلاء السماسرة المدعمون سياسياً هم الذين يتحكمون في أسواق الخضر والفواكه والأسماك. كذبه بعض حلفائه باستحياء، واستمر الحرص على أن يحتفظ كل محظوظ بحظوة لدى الدولة إلى أجل كان معلوماً.
يبالغ المنتفعون من أموال التغطية الاجتماعية من الخيرات “التي عمت” الفقراء من خلال تنزيل مشروع استراتيجي كبير. وينسون أن حكومتهم كانت ضعيفة أمام لوبيات نفخ الأسعار في مجالات التغطية الصحية، والمواد الغذائية والطاقية، وحتى لوازم الدراسة. تجاوز مستوى التضخم 20%. ووجب التذكير بأن منهجية قياس ارتفاع الأسعار وكذلك البطالة تخضع لمؤشرات لا تفرق بين تكلفة التغذية وبين تكلفة اقتناء تجهيزات أو عقارات، ولا تميز كذلك بين الفقير والغني، وتحاول أن تميز، دون تركيز، بين المدينة والقرية، وبين الجهات، فلا تنجح في إعطاء صورة حقيقية عن التفاوتات الاجتماعية والمجالية. استفاد الفراقشية من أموال العقار عبر التسهيلات والمنح. والأمر تعلق بالآلاف الهكتارات وملايير الدراهم. والأمر تعلق بمنح سخية ذهبت إلى “منتخبين من الأصفياء” في مجالات الصيد في أعالي البحار، والسياحة، والفلاحة (عبر المغرب الأخضر وجيله الذي تلون بالأخضر)، وأخيراً بإعادة بناء منظومة المنح السخية للاستثمار. ويستمر سخاء المتحكمين في المال العام في غياب منظومة متابعة وتقييم ومحاسبة.
وسيظل صوت المواطن المعبر عن معاناته أكثر صدقاً من أي خطاب سياساوي. وقد وصل الفراقشية إلى القطاع السياحي الداخلي. وقد لاحظ جميع المتابعين تهافت كثير من مقدمي خدمات لطالبي السياحة الداخلية، على المشاركة في معركة أسعار تهم السكن، والمطاعم، والسفر واستغلال الشواطئ بعنف نابع من عضلاتهم، وعنف أسعار يفرضونها على من غامر باقترابه من الشاطئ. وأصبحت وجبة في مطعم مغربي تتجاوز مرات كثيرة وجبة في بلدان شمال البحر المتوسط. ويؤكد من زار البرتغال وإسبانيا أن الأسعار بعيدة جداً عن شمال المغرب وجنوبها.
تحول الشناقة إلى مسيطرين على العقار، والثروة الحيوانية، والمواد الطاقية وعلى خيرات البحار بدعم حكومي كريم، وفي غياب إجراءات تحمي المال العام، وتحاسب من استفاد منه بدون وجه حق. سيستمر الشناقة في دأبهم للسيطرة على كل القطاعات. وسيجدون في الفقر والهشاشة، وغياب متابعة المسؤولين ومحاسبتهم، تلك الأرض الخصبة لتنويع مواقع سيطرتهم على أرزاق المواطنين، وعلى المال العام، وعلى تدبير الشأن العام. وقد وصلت وقاحة بعضهم إلى الصراخ بأعلى ما أوتي من طاقة، أن على الدولة “تتريك” (أي سحب كل ممتلكات وحسابات) الفاسدين، وقال هذا في الوقت الذي، انتفخت أوداجه، للهجوم على جمعيات المجتمع المدني، ذات المصداقية، التي تواجه الفساد.
ستقدم الأحزاب تصوراتها لتنظيم الانتخابات المقبلة قبل نهاية شهر غشت لوزير الداخلية. وقد تلح على الحياد الإيجابي للإدارة خلال الانتخابات، وتتبع عمليات بيع التزكيات، وتمويل الحملات الانتخابية، وتفعيل منع مجرمي الشأن العام من الترشح، وكل الآمال لضمان حصول الوطن على نواب يشرفون. سكنني هذا الحلم منذ سنين، لكنني أُفقت على كابوس يزعجني طيلة سنوات. برلمان مليء بالأميين وبمن تمت تنحيتهم بحكم من المجلس الدستوري، وبمن سُجنوا بسبب تهم تتعلق باختلاس المال العام، أو الاستيلاء على أراضي سلالية أو جماعية أو ارتكاب جرائم. ولكن كل هذا المشهد البئيس لن يخلق واقعاً جديداً. أصبحت أحزاب بلادنا لا تؤمن بالكفاءة والنزاهة، ولكنها تؤمن بمن له القدرة على تجييش “الحياحة”، وملء صندوق الحزب بالأموال، وبالتالي إزاحة “المناضل” والمؤمن المغفل بتاريخه ونضاله. وسيظل العمل الرقابي للمجلس الأعلى للحسابات ينكب على تبرير الحسابات فقط. أما خفايا العملية الانتخابية فلا يعلمها إلا الراسخون في ثقافة “الفراقشية”. وقد تأتى لهؤلاء جبروت “الشبيحة” في السيطرة على سير الحملات الانتخابية. ولا يمكن أن ننسى تلك الجماعات التي كانت تمنع بعض الأحزاب من القيام بحملاتها. وقد تعرضت أحزاب اليسار، وحزب العدالة والتنمية، وأحزاب أخرى لمضايقات عديدة لكي يتم عزلها. قد لا أكون متفقاً مع هذه الأحزاب، ولكنني لن أتفق على ما تعرضت له من مضايقات. ولا زالت صور تبين ما تعرض له عبد الله بوانو من عنف أثناء انتخابات 2021، وصمد. وأصبح هذا الطبيب من أكبر الكفاءات البرلمانية في بلادنا بجانب النائبتين اليساريتين التامني ومنيب، بالإضافة إلى نجلة شباط، صاحبة الاختصار القوي. يضاف إلى هؤلاء إدريس السنتيسي، الحركي، صاحب اللغة البسيطة والعميقة نقداً، وعبد الرحيم شهيد الذي يحاول رفع صوت معارضة اتحاديه.
ورغم محاولات المعارضة الرسمية، ظل الشارع المغربي هو حامل الرسائل إلى الدولة في ظل ضعف أغلبية حكومية، غياب انسجام حكومي حول تقييم صريح لإنجاز وعود البرنامج الحكومي. وستظل قوة الفراقشية علامة ظاهرة في سنوات تحالف حكومي بُني على الوعود، وركب على صهوة مشاريع ملكية، وأنتج أضعف مؤشرات الحكامة منذ ما يقرب من ثلاثة عقود. قرر الفراقشية أن يعادوا مجالس المنافسة ومحاربة الرشوة والمجلس الاجتماعي والاقتصادي والبيئي، وكل من يخالفهم قراءة الإحصائيات وإعطاء الرأي في تدبير الشأن النقدي والمالي والماكرو اقتصادية. يجب القضاء على الفراقشية في كل القطاعات، وفي ذلك حماية للوطن.