شاعرة استشهدت في طريق النزوح

“بلونِ الحبِّ يا قلبي
تسيرُ برِقّةٍ وتُرى
إلى حيثُ المنى تصلُ
لأصقاعٍ تعي وترى؟
لقدسِ الله مشرعةً
بنورٍ يُشعِلُ القمرَا”
هذا مما كتبته شقيقتي نهى، مهندسة وشاعرةٌ غزيّة، كان لها من العمر خمسة وعشرون عاماً من الطموح والأحلام… قبل أن تمزق قذيفة غادرة جسدها الطاهر.
صباح اليوم الذي استشهدت فيه، كان القصف مريعاً، والنزوح هو الخيار الوحيد للنجاة. لم يخطر ببالنا أن مصائرنا ستختلف، وأن إحدانا سترحل دون وداع.
جهزت نهى حقيبة نزوحها الصغيرة، ووجدتُها تضع فيها دفتر كتاباتها وكتاباً، قائلةً بتفاؤل عجيب: “سأقرؤه هناك”. وهنا نظرتُ بذهول إلى طاقتها الجميلة التي تتحدى الموت.. ثم ابتسمت.
وقبل أن نتحرك، استوقفتنا شجرة الخوخ في فناء الدار. حاولتُ عبثاً الوصول إلى بعض ثمارها، لكن يدي لم تطلها. غابت نهى قليلاً، ثم عادت تحمل عدة حبّات من ثمار الخوخ الناضجة ووزعتها علينا. سألتها ممازحة: “كيف فعلتِ ذلك؟ كنت أظن أنني أطول منكِ!”، فتبسّمت ابتسامة حُفرت في فؤادي إلى الأبد قبل أن تقول: “إنها طرقي الهندسية الخاصة”.
في رحلة نزوحنا العاشرة، وقفتُ في ذات المكان الذي ستُستشهد فيه أختي لاحقاً. كنت أنتظر باقي أفراد الفوج الأول من عائلتنا، وأراقب الأفق الذي يلتهمه غبار القصف.
اكتمل عددنا، ولاح من بعيد الفوج الثاني يتصدره أبي، بينما ظل الفوج الثالث، الذي يضم نهى، بعيداً عن مرأى العين.
وصلنا جميعاً إلى المستشفى الإندونيسي، الذي ظنناه ملاذاً آمناً، سوى فوج أختي الثالث. فجأة، اشتد القصف وهاجمنا الرعب، قبل أن يركض أحدهم صائحاً: “نريد سيارة إسعاف حالاً!”.
سأعود بكم الآن إلى أشد اللحظات وجعاً. انطلق فوجهم، وتقدمتهم نهى كما فعلتُ أنا قبلها. وعند وصولها إلى نفس البقعة التي وقفتُ فيها، استهدفتها قذيفة بشكل مباشر. صدرت منها صرخة واحدة… ثم رحلت. تراجع من كان معها، وقد تشبثوا بخيط أملٍ واهٍ أنها نجت أو أصيبت فقط. من بعيد، رأوها ممدة بلا حراك… بلا حياة. حاولوا الاقتراب، لكن القصف المدفعي كان ينهمر بجانبها، وقصف الطيران عمارة قريبة، وهاجمتهم طائرة “كواد كابتر”. كان الوصول إليها يعني موتاً محققاً لبقيتهم. انتظروا طويلاً، يراقبونها من بعيد وقلوبهم تتمزق، حتى نطق أحدهم الكلمة التي حفرت جرحاً أبدياً في أرواحنا: “نهى استشهدت!”.
سارعوا إلى المستشفى من طريق آخر، تاركين خلفهم كل شيء. لا شيء يصف ارتجاف يدي وأنا أمسك مقبض باب الطوارئ، أسألهم سيارة إسعافٍ لها. جاءني الرد واضحاً قاسياً كالصخر: “لا، لا يمكن أن تصل سيارة الإسعاف إلى هناك، سيتم استهدافها”.
قلت بآخر رمق من أمل: “ولكنها أختي…”. ثم غلبتني عبراتي، معلنةً موت أملي اليتيم، وبداية فصول من ألمٍ لا ينتهي.
فما أسعدها وما أتعسنا من بعدها! ربما لم يكن الألم الأكبر في استشهادها، فربما استراحت من شقاء هذه الدنيا وظلمها. لكن الألم الذي يمزق روحي في كل لحظة، ويلاحقني كظلّي أينما وجّهتُ بصري، هو أننا لم نستطع دفنها. حُرمت أختي من حقها الإنساني الأخير في قبرٍ يحتضن جسدها. تُركت هناك، في العراء، لثلاثة أشهر ويزيد، لتبكيها الافئدة العاجزة قبل المحاجر. أي عذاب يفوق تخيل جسد شقيقتك الطاهر نهباً للسباع والطيور؟ أرى هذا الوجع في عينيّ أبي الصامتتين الذي بدأ النور يهرب منهما، رجلٌ حُرم من حقه في توديع ابنته وستر فلذة كبده بالتراب.
أكثر من ثلاثة أشهر، ونحن لا نستطيع الوصول إليها. الاحتلال يغير معالم الأرض، يمحو الشوارع والبيوت، وأخشى أنه يمحو آثارها. يهاجمني خوف عقيم.. قد تنتهي الحرب ونهرع إلى هناك فلا نجد لجثمانها أثر أو لا نتعرف عليه أبداً. أي ألم هو أشد من أن تبقى أختك جرحاً مفتوحاً في العراء، وجرحاً نازفاً في قلبك إلى الأبد؟
لا زالت نهى هناك! جسدها في المكان الذي تركناها فيه، وروحها صعدت إلى السماء. والآن فقط، أستطيع أن أنطق الجملة المثقلة بكل وجع العالم: “نهى استشهدت”. كلمتان هما اختزالٌ مكثفٌ لحكاية شاعرة قتلها عدوٌ لا يرحم… هما جرحٌ واحدٌ من آلاف جراح فلسطين التي لن تندمل.
اترك تعليقاً