المقدمة
ظل المغرب لعقود طويلة مرتبطًا بالنموذج الفرنسي في مختلف المجالات، لا سيما في الهندسة المعمارية والبنية التحتية. هذا الارتباط التاريخي، وإن أسهم في بناء أسس الدولة الحديثة، بات اليوم محل مراجعة في ظل صعود الصين كقوة هندسية وتقنية عالمية.
فهل آن أوان التحول الاستراتيجي في توجهات المغرب قبل أن يفوتنا الركب؟ وهل نملك حرية الاختيار، أم أن التاريخ يفرض علينا مسارات لا فكاك منها؟
أولًا: العمارة الفرنسية – تاريخ من الهيبة والرمزية
العمارة الفرنسية ليست مجرد زخرفة، بل انعكاس لتحولات سياسية وثقافية عميقة. منذ العصر الروماني، حيث استخدمت فرنسا الأقواس والقباب والخرسانة في بناء المعابد والجسور، مرورًا بالعصور الوسطى التي شهدت بروز الطراز القوطي في الكاتدرائيات الشاهقة، وصولًا إلى عصر النهضة الذي جلب التناظر والزخرفة البسيطة، ثم إلى القرن التاسع عشر الذي شهد ثورة الحديد والفولاذ، كما تجسد في برج إيفل وجسر غارابيت.
هذا التاريخ المعماري العريق جعل من فرنسا مرجعًا عالميًا في تعليم وتطبيق فنون البناء، وأسست لذلك أكاديميات مرموقة مثل École des Beaux-Arts وÉcole des Ponts ParisTech، التي خرّجت أجيالًا من المهندسين الذين ساهموا في بناء المغرب الحديث.
ثانيا: النموذج الفرنسي في المغرب – إرث أم عبء؟
منذ الاستقلال، اعتمد المغرب على الخبرة الفرنسية في بناء الطرق، الجسور، والمرافق العامة. العديد من القناطر والمباني الإدارية المغربية ما زالت تعتمد على تقنيات فرنسية تعود إلى السبعينات والثمانينات. ورغم أن هذه البنية التحتية كانت متقدمة في وقتها، إلا أنها أصبحت اليوم تقليدية، وتفتقر إلى الابتكار والتكلفة المنخفضة التي تقدمها الصين.
الاعتماد على النموذج الفرنسي لم يكن فقط تقنيًا، بل أيضًا ثقافيًا وتعليميًا، حيث استمرت الجامعات المغربية في تبني المناهج الفرنسية، مما جعل التكوين الهندسي المغربي مرتبطًا بشكل وثيق بالمدرسة الفرنسية.
ثالثًا: الصين – نموذج هندسي متقدم
في المقابل، تقود الصين اليوم العالم في مشاريع البنية التحتية العملاقة. تبني جسورًا معلقة تمتد لعدة كيلومترات، وتشيّد ناطحات سحاب في أيام، وتدير شبكة قطارات فائقة السرعة هي الأكبر عالميًا. شركات صينية مثل CRCC وCSCEC تنفذ مشاريع ضخمة في إفريقيا، بما فيها المغرب، بسرعة وكفاءة عالية.
الصين لا تقدم فقط تقنيات متقدمة، بل أيضًا نموذجًا تعليميًا متكاملًا، حيث تدمج الجامعات بين التعليم النظري والتدريب العملي داخل الشركات، مما يجعل المهندس الصيني أكثر جاهزية لسوق العمل. هذا النموذج بدأ يثير اهتمام المغرب، خاصة في ظل الحاجة إلى تحديث بنيته التحتية ومواكبة التطورات العالمية.
رابعًا: التعليم الهندسي – بين التقليد والتجديد
المدرسة الهندسية المغربية، المتأثرة بالنموذج الفرنسي، تركز على النظري أكثر من التطبيقي، وتُدرّس مناهج قديمة لا تواكب سرعة الابتكار العالمي. في المقابل، يعتمد النموذج الصيني على التجريب، والتكامل بين الجامعة والميدان، مما يجعل المهندس الصيني أكثر قدرة على التعامل مع تحديات العصر.
إذا أراد المغرب أن يواكب التحول، فعليه أن يعيد النظر في منظومته التعليمية، ويستفيد من التجربة الصينية في تكوين مهندسين قادرين على الابتكار، لا مجرد إعادة إنتاج ما تم تدريسه.
خامسًا: الذكاء الاصطناعي – العقل المدبر لمشاريع الصين
الذكاء الاصطناعي في الصين لم يعد مجرد أداة تقنية، بل تحول إلى العقل المدبر لمشاريعها التنموية والهندسية:
• يُستخدم في تصميم الجسور والأنفاق عبر نماذج محاكاة متقدمة تضمن السلامة والكفاءة.
• تعتمد شركات البناء الصينية على خوارزميات لتحديد أفضل المواد، تقليل التكاليف، وتسريع التنفيذ.
• تدمج الجامعات الصينية الذكاء الاصطناعي في مناهج الهندسة، مما يتيح للطلبة تصميم نماذج رقمية، تحليل بيانات البناء، والتفاعل مع روبوتات ذكية.
هذا التحول يعكس فلسفة جديدة: أن المعرفة لم تعد محفوظة في الكتب، بل تُخلق لحظة بلحظة، عبر الخوارزميات.
فهل يستطيع المغرب أن ينتقل من نموذج “المهندس الورقي” إلى نموذج “المهندس الذكي”؟ سؤال فلسفي قبل أن يكون تقنيًا.
سادسًا: فلسفة التبعية والاختيار – بين إدوارد سعيد، سمير أمين، ويوهان غالتونغ
لفهم عمق هذا التحول، لا بد من العودة إلى ثلاث رؤى فلسفية نقدية للتبعية: الثقافية، الاقتصادية، والبنيوية.
• إدوارد سعيد – الاستشراق والتبعية الثقافية
في كتابه الاستشراق، يكشف سعيد كيف أن الغرب لا يكتفي بالهيمنة الاقتصادية، بل يعيد تشكيل صورة الشرق في ذهنه، ويُفرض عليه أن يرى نفسه من خلال عين الآخر.
التحول نحو الصين، إذًا، ليس فقط تقنيًا، بل هو تحرر من النظرة الاستشراقية الغربية التي ترى في المغرب تابعًا لا فاعلًا.
• سمير أمين – التنمية التابعة
يرى أن دول الجنوب، ومنها المغرب، تتطور وفقًا لحاجات المركز (الغرب)، لا وفقًا لحاجاتها الذاتية.
فرنسا، كمركز سابق، ما زالت تؤثر في نمط التنمية المغربي، أما الصين، فهي تقدم نموذجًا مختلفًا: لا يفرض ثقافته، بل يركز على النتائج والفعالية.
• يوهان غالتونغ – التبعية البنيوية
يرى أن غياب الديمقراطية في دول الجنوب مرتبط بعلاقات تبعية بنيوية مع دول الشمال.
التحول نحو الصين، إذًا، هو إعادة بناء للبنية السياسية والاقتصادية، بشرط أن يكون مدفوعًا بإرادة داخلية، لا مجرد استبدال تابع بآخر.
سابعًا: الإحصاء كمرآة للفلسفة
• الصين تحتل المرتبة الثانية عالميًا في الابتكار، بينما فرنسا في المرتبة 11 (تقرير الابتكار العالمي 2023).
• الاستثمارات الصينية في إفريقيا تجاوزت 60 مليار دولار، بينما الاستثمارات الفرنسية تتراجع تدريجيًا.
• في المغرب، أكثر من 40% من الطلبة في الخارج يدرسون في فرنسا، مقابل أقل من 5% في الصين، ما يعكس استمرار التبعية التعليمية.
الخاتمة هل نملك شجاعة الاختيار؟
التحول نحو الصين لا يعني فقط تغيير الشريك، بل هو سؤال وجودي:
• هل نريد أن نكون فاعلين أم مفعولًا بنا؟
• هل نريد أن نعيد تعريف التنمية، أم نواصل استهلاك نماذج الآخرين؟
• هل نملك الشجاعة لنقول: نحن نختار، لا نتبع؟
كما قال ميشيل فوكو:
“السلطة ليست فقط ما يُفرض علينا، بل ما نعيد إنتاجه بأنفسنا.”
فهل نملك الجرأة على كسر الحلقة، وإعادة إنتاج أنفسنا خارج النموذج الفرنسي، وداخل نموذج مغربي حر، ذكي، ومتعدد؟