وجهة نظر

تخليق الحياة السياسية في المغرب: مطمح ملكي وحلم شعبي نحو مغرب جديد

في خضم التحولات السياسية والاجتماعية التي يعيشها المغرب، تبرز مسألة تخليق الحياة السياسية كإحدى أولى الأولويات الوطنية التي أضحت تشكل محوراً مركزياً في الخطاب الملكي، وهاجساً مجتمعياً ملحّاً. فإرادة جلالة الملك محمد السادس، نصره الله، لا تقتصر على تحديث المؤسسات وتقويتها شكلياً، بل تتجه نحو جوهر العملية السياسية، عبر ترسيخ المصداقية، وربط المسؤولية بالمحاسبة، وإرساء ثقافة نخب جديدة تليق بالمغرب الجديد.

لقد نصّ الدستور المغربي بوضوح على حق كل مواطنة ومواطن في الترشح وتحمل المسؤوليات العمومية، ما لم يكن قد صدر في حقه حكم قضائي باتّ، وهو ما يُعد تجسيداً لضمانات الحقوق والحريات. غير أن هذا الحق لا ينبغي أن يُفهم بمعزل عن روح النص الدستوري وأهدافه الكبرى، التي تضع الصالح العام، وتخليق الممارسة السياسية، في صلب المشروع الديمقراطي المغربي. من هذا المنطلق، فإن مطاردة الفاسدين ومن تحوم حولهم شبهات المسّ بالمال العام ، ليست إجراءً انتخابياً ظرفياً، بل هي معركة مستمرة لتطهير الحقل السياسي من كل من أساء إليه.

إن السماح لأشخاص ارتبطت أسماؤهم بالفساد، أو تشكّلت ضدهم قناعات مجتمعية راسخة حول سوء تدبيرهم، بالترشح أو التموقع السياسي، يشكّل خيانة لروح الدستور، وإن لم يكن في ظاهره خرقاً له. فالدستور ليس فقط نصوصاً قانونية تُطبّق بالحرف، بل هو تعاقد أخلاقي ومجتمعي يرسم صورة الوطن الذي نطمح إليه. ولذلك، فإن حضور هذه الوجوه التي أساءت إلى العمل السياسي في الماضي، يفرغ الاستحقاقات من معناها، ويُبخس العمل المؤسساتي، ويعمّق فجوة الثقة بين المواطن والدولة.

اليوم، والمغرب يراكم تجارب مؤسساتية مهمة، ويخوض تحديات إقليمية ودولية كبرى، لا يمكنه أن يستمر بمنظومة حزبية تنتج نخباً هجينة، أو تزكّي أسماء لا تحظى لا بالكفاءة ولا بالمصداقية. وقد أشار جلالة الملك غير ما مرة إلى ضرورة النهوض بعمل الأحزاب، باعتبارها صلة وصل بين المواطنين ومؤسسات الحكم. فالأحزاب مسؤولة أولاً عن غربلة مرشحيها، وتجديد نخبها، وإعادة هيكلة خطابها السياسي ليتماشى مع واقع المجتمع المغربي وتطلعاته.

 

لم تعد الأساليب القديمة في إدارة العملية السياسية قابلة للصمود. فالتواطؤات، والصفقات المعلنة والمستترة، وشراء الولاءات، وإنتاج “نخب انتخابية” لا تحمل من السياسة إلا اسمها، كلها باتت مكشوفة للعموم، بل وصارت محل سخرية ورفض مجتمعي متزايد، خصوصاً في ظل صعود الوعي السياسي لدى المواطن المغربي. هذا الوعي الذي لم يعد يقبل التمثيلية الشكلية، بل يطالب بمؤسسات قوية تمثله بصدق، وتعبر عن آماله وطموحاته المشروعة.

وفي هذا السياق، يأتي التكليف الملكي لوزير الداخلية بالإشراف على العملية الانتخابية، ليس فقط من منطلق تقني أو إداري، بل من منطلق سياسي عميق، يعكس حجم الرهان المطروح. فتنظيم انتخابات نزيهة، بشفافية كاملة، في مناخ يسوده الوضوح والتنافس الشريف، هو خطوة أساسية في بناء مغرب المؤسسات، ومغرب الكفاءات، ومغرب المستقبل.

إننا اليوم أمام لحظة تاريخية فارقة، وفرصة ذهبية لا ينبغي أن تضيع. فلأول مرة تتقاطع الإرادة الملكية القوية، مع الوعي الشعبي العارم، ليفتحا معاً أفقاً جديداً لمسار ديمقراطي حقيقي. فالمؤسسات التي نريدها ليست مؤسسات تُملأ بالمقاعد فحسب، بل هي مؤسسات تصنع القرار، وتدير الشأن العام بكفاءة، وتُحاسب حين تخطئ. ولن يتم ذلك إلا عبر أحزاب مسؤولة، ونخب نزيهة، ومجتمع مدني يقظ، وإعلام حرّ ونزيه.

إن تخليق الحياة السياسية ليس ترفاً، بل ضرورة لبناء الثقة المفقودة. والثقة، حين تبنى، تكون أساساً للاستقرار، ورافعة للتنمية، ومدخلاً لتموقع المغرب كقوة إقليمية صاعدة في محيط متحول. لقد حان الوقت لأن نقطع مع مرحلة “السياسي العابر”، و”المنتخب المتحايل”، و”الخطاب الانتخابي الفارغ”، نحو مرحلة يكون فيها السياسي رجل دولة، والمنتخب خادماً للصالح العام، والحزب مدرسة لإنتاج الكفاءات لا مزرعة لتوزيع التزكيات.

إن تخليق الحياة السياسية هو مفتاح بناء مغرب جديد، يُتوّج ملكيته التنفيذية بإرادة شعبية حقيقية، ويجعل من العمل السياسي أداة نبيلة لخدمة الوطن والمواطن. إنها مسؤولية الجميع: فإما أن نكون في مستوى هذا التحول التاريخي، أو نعيد إنتاج الفشل بكل كلفه الثقيلة.