وجهة نظر

قطاع الصحة.. بين مطرقة الإصلاح الجذري وسندان التراكمات

لا يختلف اثنان على أن قطاع الصحة قد حظي، بفضل العناية الملكية السامية والمتواصلة، بمكانة استراتيجية جعلت منه ورشاً ملكياً كبيراً، حيث رسمت التوجيهات الملكية، برؤية استباقية وحكمة راسخة، معالم طريق واضحة لإصلاح جذري للمنظومة وتعميم الحماية الاجتماعية وفي قلبها التأمين الإجباري عن المرض. وقد شكّل هذا التوجيه الملكي البوصلة التي اهتدت بها الحكومة، فارتقى القطاع إلى صدارة الأولويات ضمن البرنامج الحكومي باعتباره حقاً دستورياً وجب ضمانه لكافة المواطنات والمواطنين. إنه إصلاح جيلي بامتياز، هادئ في أسلوبه لكنه عميق في جوهره، يروم معالجة الأعطاب المتراكمة وتخفيف العبء عن المواطن، ويؤسس لمنظومة متينة قائمة على الحكامة قادرة على خدمة الأجيال الصاعدة.

وفي سياق النقاش العمومي الراهن حول واقع المستشفيات العمومية ، يجب التأكيد أن ما يعيشه القطاع اليوم ليس وليد اللحظة، بل هو حصيلة تراكمات ممتدة عبر سنوات: تشتت مسارات العلاج، ضعف التكامل بين مستويات الرعاية، تعثر صيانة التجهيزات وسلاسل الإمداد، خصاص في الموارد البشرية، وتفاوت في وتيرة الرقمنة.

من هنا، يفرض الإصلاح الملكي نفسه باعتباره الخيار الاستراتيجي الوحيد لتجاوز هذه الأعطاب، وتشييد منظومة صحية حديثة، عادلة وناجعة، تضع الإنسان في صلب أولوياتها وتستجيب لتطلعات المغاربة في العدالة الصحية والكرامة الإنسانية.

غير أن التحدي الجوهري اليوم يتمثل في تجسيد الحكامة على أرض الواقع، باعتبارها مسؤولية مشتركة لا يختلف حولها اثنان: فهي أولاً مسؤولية الحكومة في التخطيط والقيادة، وهذا أمر محسوم، لكنها أيضاً مسؤولية كل مواطن غيور، وكل فاعل داخل المنظومة الصحية، من موقعه وبقدر إسهامه.
في هذا الصدد، وجب الاعتراف بكل موضوعية بأن ما أقدمت عليه الحكومة الحالية يُعد خطوة نوعية غير مسبوقة في مسار إصلاح المنظومة الصحية، حيث جسدت مقاربة هيكلية جديدة في حكامة التنزيل تحت إشراف رئاسة الحكومة، بما يضمن الالتقائية بين مختلف المتدخلين والتعبئة القطاعية المندمجة. وقد تم أولاً إرساء الإطار القانوني عبر المصادقة على القانون الإطار 06-22 وما انبثق عنه من نصوص تنظيمية متعلقة بالحكامة، تلاها إحداث مؤسسات استراتيجية وازنة، من بينها الوكالة المغربية للأدوية والمنتجات الصحية، والوكالة المغربية للدم ومشتقاته، والمجموعات الصحية الترابية، إضافة إلى الهيئة العليا للصحة.

على المستوى المالي، تم تخصيص ميزانية تاريخية غير مسبوقة بلغت 33 مليار درهم، بزيادة تفوق 60% مقارنة بسنة 2020، وهو ما أتاح إطلاق ورش إعادة تأهيل نصف المراكز الصحية الوطنية، وتسريع بناء المستشفيات الجامعية لتغطية مختلف جهات المملكة، إلى جانب استثمارات كبرى أخرى. كما شمل هذا المجهود المالي تحسين أوضاع مهنيي الصحة عبر الرفع من أجورهم في إطار حوار اجتماعي مسؤول وبنّاء، بما يعزز مكانتهم كركيزة أساسية في إنجاح ورش الإصلاح
أما على المستوى المؤسساتي، فقد شرعت هذه الهيئات الجديدة في مباشرة مهامها الميدانية: فالوكالة المغربية للدم ومشتقاته دشّنت عملها بجولات جهوية مع المهنيين لوضع سياسة وطنية للدم، فيما عقدت المجموعات الصحية الترابية أول مجالسها الإدارية، كما هو الشأن في جهة طنجة–تطوان–الحسيمة تحت رئاسة رئيس الحكومة.

إن هذه الدينامية التشريعية والمالية والمؤسساتية، مضافاً إليها الاتفاقية الإطار التاريخية لتكوين الأطر الطبية بمختلف فئاتها، والتي ستمكّن بلادنا من تجاوز المعدل الموصى به دولياً لمهنيي الصحة في أفق 2030، تؤكد أن ما تحقق ليس مجرد تدابير مرحلية عابرة، بل هو تحول هيكلي عميق يؤسس لحكامة صحية جديدة، ويرسم معالم انتقال سلس نحو منظومة أكثر عدالة ونجاعة، تجعل خدمة المواطن في صدارة أولوياتها.

وفي خضم هذه الدينامية الإصلاحية، من المهم التأكيد أن خروج المواطن للاحتجاج لا يُفترض أن يُقرأ كرفض للإصلاح أو اعتراض على خياراته الوطنية الكبرى، بقدر ما هو تعبير طبيعي عن معاناة متراكمة لسنوات ارتبطت بصعوبة الولوج إلى العلاج، وطول مسارات الانتظار، وضعف جودة الاستقبال في بعض المرافق. ومن هذا المنطلق، يمكن اعتبار صوت الشارع عنصراً مكمّلاً لمسار الإصلاح، ودعوة بنّاءة لتسريع وتيرة التنزيل وضمان أن يشعر الجميع بأن المنظومة الصحية الجديدة أُنشئت لخدمتهم، وجعل كرامتهم في صلب كل تحول.

فما وقع في أكادير ليس سوى شاهد حي ودليل قاطع على إلحاحية هذا الورش، وضرورة التسريع أكثر في تنزيل الحكامة الطبية عبر خطوات عملية واضحة: تنظيم مسالك العلاج، تطوير أقطاب التميز، وتوسيع دائرة الانخراط لتشمل جميع المهنيين بدون استثناء — من الطبيب العام إلى الأستاذ الباحث، ومن الممرض إلى أساتذة علوم التمريض، ومن القابلة إلى الإداري. فالإصلاح لن يتحقق إلا بتكامل هذه الطاقات، ضمن خريطة الطريق التي حدد معالمها القانون الإطار 06-22، باعتباره المرجعية القانونية والعملية لبناء المنظومة الصحية الجديدة.

وهنا لابد من التأكيد على أن أعقد تحدٍّ يواجه أي مسؤول عن هذا القطاع الحيوي هو إيجاد المعادلة المتوازنة بين طموح الإصلاح العميق، بما يحمله من رهانات استراتيجية، وبين ثقل الإرث التاريخي الذي ما زالت المنظومة الصحية مثقلة به. هذا الإرث لا يواجهه المسؤولون المركزيون فقط، بل يصارعه يومياً مهنيّو الصحة في الميدان، بأجسادهم وطاقاتهم وإرادتهم، وهم الركيزة الأولى لأي تحول حقيقي.

من هذا المنطلق، تبرز الحاجة الملحّة إلى دعم مهنيي الصحة ومواكبتهم بشكل عملي، والانفتاح الذكي على مختلف مكوّنات المنظومة الصحية، في إطار شراكات استراتيجية متوازنة تُبنى على أسس صلبة وبُعد نظر، تفعيلًا لمقتضيات الباب السادس من القانون الإطار 06-22. إن الهدف ليس مجرد سدّ الخصاص، بل ضمان عدالة الولوج وجودة الخدمات، بما يمكّن المواطن من التمتّع بحقّه الدستوري في العلاج.

وأضحى من الضروري اليوم تعزيز دور الهيئة العليا للصحة، ليس فقط في تقنين التأمين الإجباري عن المرض وابتكار آليات لتخفيف أعباء الإنفاق وضمان جودة العلاجات، بل كذلك في تقييم مستوى السلامة وجودة الخدمات الصحية المقدَّمة داخل المستشفيات والمراكز الصحية، العمومية والخاصة على حد سواء. وتكمن إحدى أهم وظائفها في اعتماد المؤسسات الصحية ومنحها الاعتماد وفق معايير دقيقة، بما يضمن احترامها لمستويات صارمة من النظافة، وسلامة الممارسات الطبية والجراحية، وحسن استعمال الأدوية، وحسن تدبير الاستعجالات. إن الهدف الأسمى من هذه المهام هو أن يشعر المواطن، أينما قصد المرفق الصحي، أنه يتلقى خدمة علاجية آمنة، ذات جودة، تحترم كرامته وحقه في الصحة، دون أي فرق بين القطاع العام والقطاع الخاص، لا من حيث الكلفة ولا من حيث مستوى الرعاية.

إن ربح هذا الرهان ليس بالمستحيل، بل هو ممكن وواقعي، لاسيما وأن بلدنا قد أثبت في أكثر من محطة قدرته على تحويل التحديات إلى نجاحات، بفضل القيادة المتبصّرة لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيّده.

إن إصلاح قطاع الصحة ليس رهين ولاية حكومية واحدة، بل هو ورش وطني ممتد عبر حكومات متعاقبة، يتطلب نفساً إصلاحياً طويلاً يعلو فوق الحسابات السياسية الضيقة. ومن ثَمَّ، لا ينبغي أن يقتصر التعامل مع الاحتجاجات على ردود فعل آنية، بل يجب أن يكون مبنياً على المسؤولية والموضوعية، خاصة وأن البنيات التحتية اليوم تعرف دينامية إعادة تأهيل وبناء، مع مستشفى جامعي في طور الإنجاز بكل جهة، وورش الرقمنة في طور التنزيل، والموارد البشرية في مسار تكوين متواصل.

إن المرحلة الراهنة تفرض عملاً ميدانياً مشتركاً مع أسرة القطاع، وفق مؤشرات دقيقة قابلة للقياس والمساءلة، بما يضمن إعادة بناء الثقة بين المواطن ومنظومته الصحية.

فالصحة، في نهاية المطاف، ليست مجرد قطاع إداري، بل هي تاج فوق رؤوسنا جميعاً، ورهان وطني لا يقبل التأجيل، يتطلب تعبئة جماعية بروح وطنية عالية، تحت القيادة الرشيدة لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيّده.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *