وجهة نظر

لا تصدقوا ترامب

الدكتور مصطفى كرين

يُحكى، من باب الطرافة، أن أحدهم التقى الطبيب الألماني ألويس ألزهايمر في آخر أيامه، وهو الذي لم يُعمِّر طويلًا، إذ توفي سنة 1915 عن عمر ناهز 51 عامًا فقط. فسأله عن أسباب وأعراض مرض الخرف وفقدان الذاكرة الذي يحمل اسمه، فرد عليه الدكتور ألزهايمر بعد طول تفكير قائلاً: “لقد نسيت”…

هكذا هي الحياة: “نسي” ألزهايمر أنه اكتشف مرض النسيان، لكنه جعلنا نفهم لماذا كان الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن يُصافح الهواء بعد انتهاء خطاباته أمام الملأ، وكيف التقى سنة 2023 في ألمانيا بالرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران المتوفى منذ 1996، ولماذا كان يظن أن عبد الفتاح السيسي رئيس المكسيك، ولماذا ردَّد بعد إنهاء إحدى خطبه عبارة: “حفظ الله الملكة”، وهو شعار بريطاني في عهد فيكتوريا وإليزابيث لا علاقة له بالأمريكيين. وأخيرًا ـ وليس آخرًا ـ كيف ومتى خاض بايدن مغامرات في جبال الهملايا رفقة الرئيس الصيني شي جين بينغ رغم أن هذا الأخير لا علم له بالأمر.

حدث كل هذا بينما كان بايدن يرأس “أخطر” دولة في العالم… وكأن ترامب أراد الإمعان في التنكيل بنا، فقد دأب على نعته بـ”جو النائم” Sleeping Joe. وكأن العالم كان يركب سيارة يقودها سائق “نائم”! وها نحن رأينا كيف ارتطمت تلك السيارة برصيف أوكرانيا، ودهست سكان غزة، وتسببت في العديد من الكوارث حتى اضطر الأمريكيون إلى تغيير السائق.

لكن بدل سائق “نائم”، حصلنا على سائق متهور هذه المرة! لا يرتكب الحوادث بسبب “الإرهاق”، بل لأنه ببساطة يعشق “التفحيط”… جاءنا محمولًا على أجنحة عاصفة من الوعود والوعيد، لكنه مثل ألزهايمر سرعان ما نسي لماذا جاء أصلًا.

قال لنا ـ من بين ما قال ـ إنه سينهي الحرب في كوريا… عفوًا، في أوكرانيا، خلال 24 ساعة! (يا إلهي، هل أصبنا جميعًا بالخرف؟). وقال إنه سيسحق بنغلاديش… عفوًا، الصين تجاريًا، ويفرض عليها رسومًا جمركية تصل إلى 60%. وقال إنه سيطرد المكسيك… عفوًا، الصين من منظمة التجارة العالمية. وقال إنه سيبني سياساته على شعار “روسيا أولًا”… عفوًا، أقصد “أمريكا أولًا”. وقال إنه سيحارب “الدولة العميقة” التي تسببت في هزيمته السابقة. وقال أيضًا إنه سيطرد كل الهنود… عفوًا، المهاجرين، من أمريكا، ويفتح “الشباك الأوتوماتيكي”… أقصد “الحقّ الأوتوماتيكي” في الجنسية! وغير ذلك كثير.

فماذا وقع؟

الحرب في أوكرانيا لا تزال مستعرة، وستبقى بعد أن يرحل ترامب. وروسيا، التي هدد بتدمير اقتصادها، استطاعت أن تفرض عليه استقبال رئيسها فلاديمير بوتين في ألاسكا بكل طقوس الإمبراطوريات. بل إن أمريكا صارت مستعدة للانخراط ـ ومعها أوروبا الغربية ـ في اتفاق سلام برعاية موسكو، يُعيد رسم الخريطة الأمنية والسياسية لأوروبا والعالم، مع التسليم بضم الشرق الأوكراني، بما في ذلك القرم والدونباس وربما حتى ميناء أوديسا إلى الاتحاد الروسي. وهو ما يُكرس الهزيمة العسكرية والاستراتيجية الكبرى للغرب، مع ما سيترتب عن ذلك في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط.

سنرى النفوذ الروسي يتوسع من جديد في الفضاء السوفييتي السابق، وسنرى الصين تُضيّق الخناق أكثر على تايوان، فيما دول بأمريكا اللاتينية مثل المكسيك والبرازيل وبنما وفنزويلا تتمرد على الهيبة الأمريكية. وسنرى دولًا آسيوية مجاورة للصين تبحث عن تسويات سلمية معها لحجز مكان في النظام العالمي الجديد. وسنرى بلدانًا إفريقية جديدة تتحرر من ربقة الاستعمار المباشر وغير المباشر، خصوصًا في غرب إفريقيا والمحيط الهندي، مثل مدغشقر التي قد تُحيي مطالبها باسترجاع “الجزر المتناثرة” المحتلة من فرنسا منذ القرن الماضي. وسنرى أزمة هوية وأزمة أهداف داخل الحلف الأطلسي تُمهّد لتفكيك تلك البنية العدوانية العجوز التي عمَّرت ثلاثة أرباع قرن… إفلاس سياسي وهزيمة استراتيجية أليست كذلك يا سيد ألزهايمر يا متعلم؟!

أما في الشرق الأوسط، فالحرب والإبادة في غزة ما تزالان مشتعلة. لقد فشل ترامب في تحريكها من مكانها، بل فاقمها، وفقدت أمريكا والغرب كل مرجعية أخلاقية ـ أو لعلهم نسوا أن لهم واحدة أصلًا. صاروا شركاء في أبشع كارثة إنسانية، بينما محور الشرق يثبت أحقيته سياسيًا وأخلاقيًا ويُعرّي وعود ترامب الانتخابية… إفلاس أخلاقي أليس كذلك يا سيد ألزهايمر؟

أما إيران، فقد تحولت إلى قوة إقليمية كبرى بعدما “نسي” ترامب أنه كان يريد تدميرها. والهند، التي وعد بضمها إلى تحالف ضد الصين وروسيا، وجدناها اليوم في تحالف ثلاثي معهما. والبرازيل، التي كانت ورقة بيد أمريكا زمن بولسونارو، صارت مقتنعة بأن مستقبلها مع بريكس لا مع واشنطن. والقادم أعجب وأغرب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *