في زمنٍ يُفترض أن تكون فيه الثقافة منارةً للعقل، تحوّلت كثير من المؤسسات الثقافية العربية إلى واجهات احتفالية، تُعنى بالمظهر أكثر من المضمون، وتُراكم الصور أكثر مما تُنتج الأفكار. لم تعد الأزمة مجرد ضعف في المحتوى، بل أصبحت أزمة في المعنى ذاته: حين يُستبدل التفكير بالترويج، والبحث بالتمثيل، والمثقف بالمتحدث اللبق.
البهرجة كقيمة بديلة
تُقام المؤتمرات في قاعات فاخرة، تُزيّنها الشعارات، وتُغطّيها الكاميرات، وتُروّج لها المنصات الرقمية، لكنّها غالبًا ما تخلو من أي نقاش حقيقي أو مساءلة معرفية. يُصبح النجاح مرهونًا بعدد الصور المنشورة، لا بعدد الأفكار المطروحة. هكذا تتحوّل الثقافة إلى طقس احتفالي، يُشبه دكانًا يُعرض فيه كل شيء إلا الفكر.
مرتزقة الثقافة: فن الإلقاء بلا فكر
في قلب هذه الأزمة، يظهر ما يمكن تسميته بـ”مرتزقة الثقافة”: أفراد يُتقنون فن التواصل، ويُجيدون الإلقاء، ويعرفون كيف يُقنعون المنظمات بأنهم مفكرون، بينما هم في الحقيقة مجرد واجهات صوتية، يُعيدون إنتاج خطاب ممول، ويُشاركون في مؤتمرات لا لتبادل الأفكار، بل لترويج سرديات جاهزة. لا يُنتجون معرفة، ولا يُقلقون السائد، بل يُسوّقون أنفسهم كخبراء في كل شيء، ويُمارسون نصبًا ناعمًا على المؤسسات التي تبحث عن “التمثيل” لا عن “التحليل”.
التمويل كأداة اختراق
الأخطر من البهرجة هو التوظيف السياسي للمؤسسات الثقافية. في حالات كثيرة، تُستخدم هذه المنصات لمدّ النفوذ الأيديولوجي، خصوصًا من قبل دول تسعى لترويج خطاب الإسلام السياسي تحت غطاء “الحوار الثقافي” أو “النهضة الفكرية”. النموذج القطري يُعدّ مثالًا بارزًا، حيث تُموّل مراكز تستقطب شخصيات مرتبطة بالتنظيم الدولي للإخوان المسلمين، وتُقدّمهم كخبراء، بينما الهدف الحقيقي هو تطبيع خطاب أيديولوجي مغلق.
حتى المؤسسات الإسلامية الدولية لم تسلم من هذا الاختراق؛ فمؤتمرات الإيسيسكو الأخيرة، التي يُفترض أن تكون منصات رصينة للعلم، لم تخلُ من مظاهر البهرجة الشكلية، والتمثيل البروتوكولي، وتضخم الصورة على حساب المضمون. حين تُصاب مؤسسات كهذه بهذا الداء، فإننا أمام خلل بنيوي في فهم وظيفة الثقافة، وفي تحديد من يُمثّل الفكر، ومن يُوجّهه.
أسلمة المعرفة: حين تُختزل الحقيقة في العقيدة
حين تكون المعرفة هي إدراك للحقائق، وفهم لها عبر العقل، أو عبر التجربة، أو التأمل، أو الاطلاع على تجارب الآخرين، فهل يبقى من معنى لذلك الادعاء الذي يزعم “أسلمتها”؟
أفهم من يدعو إلى أسلمة الفلسفة، إذا كان يقصد تطوير فكر يُعنى بالتوحيد، لكنني أعجز عن فهم ما يُسمّى “أسلمة المعرفة”. المعرفة مشترك إنساني، وحق طبيعي لا دين له. فلو قال المسيحيون بتمسيح المعرفة، أو اليهود بتهويدها، ومنعوا ما وصلوا إليه من علم عن غيرهم، لانهار المشروع الإنساني برمّته.
المراكز التي تُعلن نفسها “إسلامية” وتدّعي أسلمة المعرفة، غالبًا ما تكون قد أُكلت من الداخل: أكلت السياسة ضميرها، وأكلت الأيديولوجيا عقل أفرادها، فتحوّلت من مؤسسات بحثية إلى منابر دعوية، ومن فضاءات فكرية إلى أدوات ترويجية، تُعيد إنتاج خطاب مغلق باسم الدين، وتُقصي كل ما لا يُناسب سرديتها.
النتائج الكارثية
* تسييس المعرفة: يُصبح البحث تابعًا للتمويل، لا للمنهج.
* إضعاف الثقة: يفقد الجمهور الثقة في المؤسسات الثقافية.
* تشويه المفاهيم: تُعاد صياغة مفاهيم مثل “الحرية” و”الهوية” بما يخدم أجندات ضيقة.
* احتكار الحقيقة: تُختزل المعرفة في عقيدة واحدة، ويُقصى التنوع، ويُمنع الحوار.
نحو استعادة المعنى
لا يمكن استعادة المعنى في العمل الثقافي إلا عبر تفكيك هذا النمط السائد، والعودة إلى جوهر الفكر:
* المطالبة بالشفافية في مصادر التمويل وأهداف المؤسسات.
* دعم المبادرات المستقلة التي تُنتج معرفة حرة.
* فضح التوظيف السياسي للمؤتمرات الثقافية، وتفكيك الخطاب الذي يُروّج له.
* الدفاع عن المعرفة بوصفها حقًا إنسانيًا، لا عقيدة مغلقة.
* إعادة الاعتبار للنقد، وللجدل، وللأسئلة التي تُزعج ولا تُرضي، لأن الفكر الحقيقي لا يُهادن، بل يُسائل ويُقلق ويُحرّر.
* بقلم: الدكتور عبد الحي السملالي – باحث في الرياضيات والإبستمولوجيا