وجهة نظر

الإسلام في مواجهة التطبيع و الاختراق الثقافي

إذا كانت الإساءة للإسلام قد جاءت في الغالب من المسلمين، فإن الإساءة الى الحداثة والعلمانية قد تأتي أيضا من دعاة الحداثة والعلمانية. هذا قد يؤكد أن الدوغمائية ليست حكرا على دعاة الأصولية بل قد تنتقل أيضا الى دعاة العقل والحداثة. السيد عصيد مثلا فيما سمي بالمناظرة ظهر مهزوما أمام الدكتور طلال الحلو لأنه يردد خطابا عاما ومستهلكا عن حقوق الإنسان وعن الحريات الفردية.. وأن الدين هو اختيار شخصي وليس نظاما عاما. في مواجهة هذه المحفوظات وعلى الرغم من أن الدكتور طلال اعتمد خطابا فقهيا متزمتا وهو يدافع مثلا عن زواج القاصرات، فإنه كان عقلانيا عندما تحدث عن الاختراق الثقافي لمجتمعاتنا من طرف القوى الاستعمارية.. وأشار إلى أن غزة تؤكد على أننا أمام إفلاس غربي حقيقي.

حدث أخر كشف على أن الدفاع عن حرية التعبير خارج السياق يمكن ان يعطي نتائج عكسية. هذا ما كشف عنه الخروج المفاجئ للمدعوة ابتسام لشكر. العبارة التي ظهرت مكتوبة على قميصها تجاوزت هذه المرة الدعوة إلى الإفطار العلني في رمضان وأحدثت انقساما بين المدافعين عن حرية التعبير وحقوق الانسان وبين من يعتقد أنه لا مجال للحديث عن حرية التعبير عندما يتعلق الأمر بالمقدسات وثوابت الأمة.

اليوم كثر النشطاء ولم نعد نعرف من هو من. الجمعيات الحقوقية تغلب على ممارستها المقاربة الحقوقية المحضة، وبعض دعاة الحداثة والعلمانية يرددون خطابا خارج السياق المجتمعي، والفقهاء المتزمتون يقدمون للحكام حيلا فقهية مؤدى عنها. هذا هو حالنا في مرحلة تعددت مخاطرها ورهاناتها الكبرى. في هذا المنعطف التاريخي تسعى سياسة العولمة الثقافية إلى تعميم النموذج الغربي على كل المجتمعات. هذا يؤدي إلى تفكيك الروابط الاجتماعية ويعرض الهويات الوطنية والثقافية للتشظي والذوبان. وعندما تختفي القيم الجماعية يعيش الأفراد حالة ضياع حقيقية وتفقد الحياة بالنسبة إليهم معناها. هذا ما يحدث اليوم أمام أعيننا.. وهذا ما يفسر انتشار العنف والعدمية ليس فقط بين الأفراد ولكن أيضا في الاختيارات الكبرى للدول. نحن نتعرض إذن للاختراق الثقافي. ويجب اليوم أن نقول ذلك صراحة. هذا الاختراق الثقافي يكتسي خطورة كبرى عندما يتستر ليس فقط خلف غطاء الحريات الفردية فقط ولكن أيضا خلف شعارات حقوق الانسان والحداثة والعلمانية. في هذه الحالة يكون الدين مستهدفا لأنه يشكل نظاما من القيم يضمن تماسك المجتمع. هذا القول قد لا يعجب الذين يتقمصون زورا صورة الحداثة والعلمانية.

لكن لا داعي للتسرع لأننا لا نضع تعارضا بين الدين من جهة والعلمانية والحداثة من جهة أخرى. العلمانية لا تعني أبدا أن الدين يندرج في المجال الخاص. ونحن هنا لا نتكلم عن إيمان الأفراد بل نعني بالدين ذلك النظام من القيم والأخلاق والمبادئ العامة التي تشكل شخصياتنا مهما كانت درجات إيماننا. أنا شخصيا متشبع بالفكر الاشتراكي ولكن لا أستطيع أن أنكر أن الدين الإسلامي جزء أساسي من هويتي الثقافية والفكرية التي أعتز بها. ويجب ألا ننسى أن الديانات الكبرى تشكل بتاريخها الطويل مشروعا ثقافيا وفكريا يقدم للناس فلسفة في الوجود ومعنى للحياة، ويجيب على مطالبهم الروحية وعلى سعيهم نحو السمو بتبني القيم العليا والمبادئ النبيلة. الدين يقدم إجابات على القلق الوجودي الذي ينتاب الناس في المراحل الصعبة من حياتهم في مواجهة الموت والمرض والألم. في مجتمعنا يعتبر الإسلام المرجع الأول والأخير بالنسبة للأغلبية الساحقة من المواطنين، كما يعتبر المصدر الأساسي في تكوين شخصية الأفراد وتشكيل الوعي الجمعي. السؤال الذي يطرح نفسه على العلماني الحقيقي هو كيف يتم نشر المعرفة بالدين؟  أما الدعوة إلى إخراج الدين من الحياة العامة وحصره في مجال التعبد الفردي فهي دعوة خارج السياق، لأنها غير واقعية وتسعى في الحقيقة الى استئصال كل تأثير ديني من الفضاء العام.

المجتمعات التي حصرت الدين في مجال التعبد الخاص بالفرد فقدت الكثير من قوتها وتماسكها. فرنسا التي طبقت علمانية متطرفة عندما ” خصخصة الدين عن طريق حذفه من برامج التعليم التي تقررها وزارة التربية الوطنية، قد ولدت جهلا ضارا بالبحث النقدي عن المعنى، هذا البحث الذي تقوم به الفلسفة وعلوم الانسان والمجتمع[1]. اليوم في المجتمعات الغربية تعرض البعد الروحي للدين لضرر كبير بسبب هذه الخصخصة.. ويمكن القول مع المؤرخ والأنثروبولوجي الفرنسي ايمانويل تود أنها تعيش المرحلة الصفر للدين. هذا الوضع خلق تفكك الأسرة وانتشار الشدود الجنسي وزواج المثليين الخ. في روسيا المجتمع والأسرة أكثر تماسكا والدولة تلعب دورها في حماية القيم الروسية وتلعب العوامل الثقافية والتاريخية دورا في حماية المجتمع من تأثيرات الثقافة الغربية. الكنيسة الأرثودوكسية أيضا لها تأثير كبيرفي الحفاظ على القيم والأخلاق المسيحية.

العلمانية إذن لا يمكن اختصارها في البعد السياسي. هناك الجانب المتعلق بنشر المعرفة العلمية.  العلمانية تسعى إلى تحرير الإنسان بالثقافة وبالحوار وبالمعرفة العلمية والنقدية. إنها لا تدعو إلى إخراج الدين من مملكة العقل ولكن تدعو إلى نشر المعرفة العلمية بالدين وتحرير الإنسان من الدوغمائية ورد الاعتبار للدين وذلك بإبراز أبعاده الروحية والأخلاقية والإنسانية التي تم طمسها. العلمانية ليست معطى جاهز إنها سيرورة تاريخية. العلمانية في أوروبا كانت ثمرة صراعات فكرية بين العقل النقدي والكنيسة. إنها بهذا المضمون غيرقابلة للتطبيق في مجتمعاتنا العربية والإسلامية. لكي تكون قابلة للتطبيق يجب تغذيتها بتاريخ الصراعات السياسية والفكرية التي طبعت تاريخ الإسلام والتي خاضها تيار فكري وفلسفي عقلاني كان سابقا حتى على عصر التنوير في أوروبا.

نحن لم نبتعد عن موضوعنا. الدين مستهدف لأنه يضمن تماسك المجتمع. وإذا كان المخطط هو الاختراق الثقافي وتفكيك منظومة القيم فإن التستر خلف الحريات الفردية وحقوق الانسان والحداثة والعلمانية قد يكون أكثر نجاعة من المواجهة المباشرة. هناك سوابق في هذا المجال. خلال الحرب الباردة ولتبرير سياساتهما لجأت الولايات المتحدة الأمريكية ومعها الاتحاد السوفياتي إلى ميثاق الأمم المتحدة والاعلان العالمي لحقوق الانسان. واشنطن ركزت على الحقوق المدنية والسياسية وموسكو على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. العهد الدولي المتعلق بالحقوق المدنية والسياسية (1966) ثم العهد الدولي المتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (1966) يكشفان بشكل جلي عن هذا التوظيف السياسي والأيديولوجي لحقوق الإنسان. ولا زالت أمريكا إلى يومنا هذا تتستر خلف شعارات الديموقراطية وحقوق الانسان لإشعال فتيل حروبها العدوانية. العراق مثال حي على ذلك. اليوم هناك رهانات أخرى.. والعالم الغربي يترنح أمام التحولات الجيوسياسية العاصفة. وبلداننا العربية والإسلامية هي اليوم في قلب هذه التحولات. ومخططات التقسيم والبلقنة تتم أمام أعيننا. العراق وسوريا والسودان وليبيا تحولت إلى كيانات سياسية غير قابلة للإدارة.. واللائحة مفتوحة. وفي بلادنا تكشف الأعداد الكبيرة للمدافعين عن سياسة التطبيع مع الكيان الصهيوني عن حجم الاختراق الذي تعرض له مجتمعنا. إن الأفكار الأكثر رجعية أصبحت تعلن عن نفسها دون أي حرج. من هنا نفهم لماذا يتم نشر التفاهة والسطحية وضرب منظومة القيم وتشجيع الشدود وتفكيك الأسر تمهيدا لتفكيك المجتمع وضرب كيان الدولة.

الدولة من حقها وواجبها إذن أن تتصدى لكل ما يهدد تماسك المجتمع. ومن غير المقبول التستر خلف حرية التعبير للدعوة إلى الشدود الجنسي خاصة إذا كانت هذه الدعوة تتم وفق أجندات خارجية. الايمان حرية شخصية ولكن الدين الإسلامي كقيم إنسانية وتاريخ حضاري ومبادئ وكثقافة مشتركة لا يجب أن يكون موضوعا للسخرية تحت ذريعة حرية التعبير والمعتقد. القضية سياسية بامتياز وعلى الذين يتشدقون بحقوق الانسان وبشكل دوغمائي أن يفهموا أن الحرية كما عرفها الفيلسوف اليوناني كاستورياديس ” هي أن نقوم بكل شيء ولكن في نفس الوقت هي ألا نقوم بكل شيء”.

ميثاق الأمم المتحدة والاعلان العالمي لحقوق الانسان ومعهما المعاهدات المتعلقة بحقوق الانسان فرضت نفسها على المنتظم الدولي بعد فظاعات الحرب العالمية الثانية. لكن طبيعة السياسة الدولية لم تتغير وما يحدث في غزة يقدم الدليل على ذلك. القوى الاستعمارية تمارس القتل والتدمير تحت شعارات الديموقراطية وحقوق الانسان. علينا إذن التعامل مع هذا الخطاب الحقوقي برؤية سياسية ونسأل عن الخلفيات. نحن جميعا مع التسامح والتعايش الديني. ولكن عندما يتزامن هذا الخطاب مع سياسة التطبيع فإن المقصود هو دفع الناس إلى قبول الاختراق الصهيوني لبلادنا تحت غطاء التعايش الديني مع اليهود وأنهم أبناء عمومتنا الى أخر المحفوظة.. هذا المنطق يسري أيضا على شعارات حرية التعبير والحريات الفردية خصوصا عندما يتشدق بها من يعتبرون الانتماء إلى الإسلام خطيئة ويختصرونه تعسفا في بعض المشعوذين أو بعض التيارات السياسية الرجعية.

اليوم نحن مهددون في هويتنا الجماعية وفي ثقافتنا الغنية والمتنوعة وفي تاريخنا وفي ذاكرتنا الجماعية.. إنهم يهدفون إلى فصلنا عن جذورنا وتحويلنا إلى كائنات استهلاكية ” تأكل الهامبرغر وتشرب الكوكاكولا وتشتري البضائع الأمريكية والأوروبية “ كما كتب الشاعر الفلسطيني الكبير سميح القاسم. إن ثقافتنا بأبعادها الدينية والقيمية والأخلاقية والجمالية.. هي مصدر قوة لبلادنا وشعبنا.. وعلينا الدفاع عنها بوعي وذكاء وشجاعة وفي مواجهة الدعوة إلى الحريات الفردية والشدود بكل أنواعه.

الطريق إلى الجحيم مفروش بالنوايا الحسنة.. والعالم ساحة مفتوحة للصراع حول المصالح.. والمقاربة الحقوقية الساذجة تعطي نتائج عكسية. الفاعل الحقوقي إذا لم يتحول إلى استراتيجي يصبح أداة في يد من يخططون لتخريب المجتمعات. لهذا فإن ترديد بنود الإعلان العالمي لحقوق الانسان بطريقة ببغائية ودون قراءة اللحظة والسياق يعتبر على أقل تقدير فعل أخلاقي. إذا كان هناك من درس يجب استخلاصه من كل هذا خاصة في هذه المرحلة فهو أن نعود إلى كتاب الأمير لنيكولا ماكيافيلي لأنه وهو يقدم النصيحة للأمير كان في الواقع يتوجه الى إلى المواطنين وكل الفاعلين من أجل أن يفهموا كيفية الحفاظ على الاستقرار وعلى كيان الدولة.

 

[1] محمد أركون ، القرآن : من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ترجمة : هاشم صالح، دار الطليعة، بيروت، ص59