العمل الجمعوي الذي فقد روحه!

“أنا فاعلة جمعوية، أسست جمعية و أنا رئيسة الجمعية براتب شهري ممتاز أتلقاه من الدعم (العمومي)..!”
م.س(مدوِّنة ومؤثِّرة)
——–
الأصل في العمل الجمعوي أن يكون عملا تطوعيا صرفا ينخرط فيه من وجد في نفسه رغبة في خدمة الناس، وقدرة على تقديم يد المساعدة لهم، والمساهمة في رقي الفرد والمجتمع. فهو تطوعي من حيث إنه يتم بدون مقابل من مال، أو منصب، أو إحراز مكانة، أو الظفر بحظوة تناله من أهل السلطة، أو المال، أو تمكنه من قضاء الأغراض الشخصية والخاصة.
فانخراطك في العمل الجمعوي يجب أن يكون بدافع واحد ووحيد هو تقديم الجهد، والوقت، والراحة، والمال، في سبيل ما تسعى لتحقيقه من أهداف الجمعية التي أنت عضو فيها، دون أن يكون لك قصد آخر من المقاصد التي انحرف إليها الكثير من الجمعويين الذين اتخذوا من الجمعيات مطايا لتحقيق الأعراض، وكسب القربات، من صناع القرار الحكمي، والسياسي، ومن أعيان المال والأعمال.
فالعمل الجمعوي وضع للخدمة التطوعية التي لا مقابل مادي لها، إلا ما يكسبه المتطوع من هناء البال، والذكر الحسن، والأجر عند الله، جزاء إخلاصه، وجهده، وتفانيه الذي لا يبغي من ورائه جزاء ولا شكورا.
هكذا كنا يوم عقلنا أنفسنا في الجمعيات التنموية، منذ أزيد من ثلاثين سنة، نضحي بالوقت، والجهد والمال، ولا شيء نجده أسعد وأفرح لقلوبنا من أن يصل معروفنا إلى الناس، ويسعدون به.
لكن، للأسف الكبير، ابتُلِيَ هذا العمل التطوعي الخالص، خلال الأزمنة المتأخرة، بكائنات ولجته من أجل الاغتناء، وكسب الحظوات والقربات، وتوسيع دائرة المعارف، والترامي في أحضان الدوائر المخملية، على ظهر الأيامى، واليتامى، والمعوزين، ومن فاتهم ركب التنمية والتعليم، ممن توسموا في هذه الكائنات انتشالهم من براثن البؤس، وغيابات الحاجة والعوز.
لقد تحولت العديد من الجمعيات، خصوصا تلك التي تتأسس ميزانياتها من المساهمات الضخمة، والإكراميات الكبيرة، إلى بقرات حلوب يتنافس على كراسي مسؤوليتها الجُشَّع من عديمي الضمير ليحولوها إلى ضيعات للاغتناء الحرام، بدل أن تكون مطايا لخدمة من أسست من أجلهم.
فالكثير من أموال هذه الجمعيات، التي تعتبر أمانات في أعناق من يتولى شأن تحصيلها وصرفها، سواء كانت أموال انخراطات، أو أموال مساهمات ومساعدات، أو أموال الدولة من المال العام، لا يُتَحرَّى في صرفها الوجهة الصحيحة. فتجد أكثرها تصرف في أمور لا علاقة لها بالأهداف التي سطرتها هذه الجمعيات وتعاهدت على تحقيقها. فجزء كبير منها يستهلك في نفقات استهلاكية يعتاش منها الأعضاء أكثر ممن وجهت لهم، وقُصِدوا منها ابتداء. حيث لا يتورع، من أسندت إليهم أمانة صرف هذه الأموال، في صرفها على غير وجه حقها، حتى أصبح هذا العمل التطوعي خدمة بمقابل، وفقد كل معانيه الإحسانية، والتطوعية؛ بل بلغ الحال أننا لم نعد نسمع لعبارة “فسبيل الله”، والتي تختصر كل المعاني العميقة، والجُوانيَّة لعبارة “التطوع” عند المسلمين، والتي تحيل على استنفاذ الجهد، والوقت، والمال، وإنفاقها من أجل خدمة المواطن، وتلبية انتظاراته، في التنمية، والتعليم، والصحة؛ حسا ولا ركزا .
وقد رُخِّص للأفراد والجماعات تأسيس الجمعيات لتكون روافد تسهم مع الدولة بكل مؤسساتها وهيئاتها الخدماتية، في خدمة الشعب، وتحقيق الانتظارات. لكن، للأسف، سار فيها الكثير من الناس، إلا من رحم ربك !، على غير هذا المهيع، حتى تحولت إلى محاضن لكسب المال الحرام، وتحقيق المصالح الخاصة على حساب المصالح العامة.
ولئن استفسرت من يسلك بهذا العمل النبيل هذه المسالك، لأجابك بسيل من المبررات المهزوزة، والحجج المتهافتة التي لا تستقيم في ذهن طفل صغير من قبيل:” وهل تريدني أن أنفق من جيبي ومن مال أولادي؟ !!!”. ونحن نقول له:” وما الذي ألزمك تولي هذه الأمانة؟. أليس هذا عملا تطوعيا، وأنت تعلم ذلك جيدا؟ أليس التطوع أن تنفق دون مقابل؟ فكيف أصبحت تطلب المقابل على عمل أنت أعلم الناس بأنه لا يستقيم إلا إذا شملته فضيلة التطوع، وكنت أنت فيه أمينا ومخلصا وذي مروءة ونكران ذات..؟. فكيف تحولت إلى مستغل لمنصب حُزْتَه لخدمة الناس، لأجل مصالحك، ومصالح أهلك وأقاربك..؟. أليس هذا عين ما تنقمه على أهل السياسة ممن يمثلون الشعب ثم يضحكون عليه؟ !
المهم، حسبنا أن نقول لهؤلاء: إن لم تستحيوا فاصنعوا ما شئتم. وللأكابر من أصحاب الخبايا والخبِئات، ممن وَعَوا حقيقة هذا العمل ولُبَّهُ وفَصَّه، وتشرَّبوا روحه، فكانت لهم صولات وجولات في خدمة الناس، وإسعادهم، دون أن يطلبوا لذلك جزاء ولا شكورا، سوى مرضاة الله تعالى وفضله؛ نقول: “وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا”..
“والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون”.. صدق الله العظيم.
دمتم على وطن.. !!
اترك تعليقاً