في عالم المسرح، حيث تقف الأرواح على الحافة وتنتظر قفزتها نحو المجهول، تبرز الممثلة صوفيا هادي، الوجه الصوفي الملائكي الناعم الهادئ الصامت العميق.
تنتقل بين الأدوار كمن يسير على حبل مشدود، تمسك شغفها بيد، وتترك الأخرى مشرعة للدهشة.
رأت صوفيا هادي النور بمدينة الرباط عام 1964. ودرست بفاس ومراكش، ثم عادت إلى الرباط لتلتحق بالموازاة مع دراستها بورشات للمسرح بمدرستها الإعدادية، ثم بالمعهد الفرنسي ضمن مسرح الهواة. وهناك كان اللقاء بنبيل لحلو الذي سيعرض عليها المشاركة في فيلمه السينمائي، “نهيق الروح”. هذا الفيلم كان أول تجربة سينمائية لصوفيا، وهي لم تتجاوز الثامنة عشر سنة. لتصبح منذ ذلك الوقت الزوجة والممثلة وشريكة المخرج المسرحي الكبير نبيل لحلو، ورفيقة الحلم لأكثر من أربعة عقود، كسرا فيها حدود المسرح التقليدي ليقدما معا تجارب مشحونة بالجرأة والتفرد. في أعمال مثل فيلم “ثابت أم غير ثابت”، ومسرحية “الانهيار ” لـ”ألبير كامي”، والإمبراطور و”أوفيليا لم تمت”، و”امرأة المسدس” لـ”ماري رودوني”، وغيرها… ملامح شراكة فنية عميقة، تجعل من هادي ولحلو ثنائيًا أسطورياً يعيد تعريف علاقة الممثل بالمخرج، والجسد بالنص.
تتميز صوفيا بقدرتها المغايرة على الولوج إلى أعماق الشخصيات المعقدة، تلك التي تتحدى المألوف وتعيد طرح الأسئلة الأساسية حول الوجود. ليست جرأتها في تقمص الأدوار مجرد استعراض لقدراتها الفنية، بل موقف من العالم، صرخة تقول إن الفن ليس حياديا.
من باريس إلى بيروت، ومن الدار البيضاء إلى بروكسل، حملت صوفيا هادي جسدها كأنه مخطوطة مسرحية، لغة راقصة تتقاطع فيها التعبيرات الشعرية والحركات الدقيقة. تفتن الجمهور بصدقها وعمقها، كما لو أنها تدعوهم إلى طقس جماعي لإعادة اكتشاف ذواتهم.
وبالرغم من كل التواشجات الفنية التي تجمعها مع نبيل لحلو، تعرف صوفيا هادي كيف تضيف إيقاعها الخاص. إذ توصف بأنها ممثلة “تذوب في الشخصية حتى تصير هي”، كثيرون يؤكدون أن حضورها فوق الركح لا يحتاج إلى ديكور ولا إلى مؤثرات، لأن طاقتها الداخلية تكفي لملء الفضاء. هذه القدرة النادرة هي ما جعلت النقاد الأوروبيين الذين شاهدوها في باريس وبروكسل وغيرها من العواصم الأوروبية، يضعونها في خانة الممثلات الكبيرات اللواتي يصنعن التجربة المسرحية بصدق وانخراط قل نظيرهما.
حين وقفت على خشبة المسرح الباريسي مثلا، لتجسد شخصية “جان باتيست كلامانس” من مسرحية “الانهيار” لـ”ألبير كامي”، حملت على كتفيها عبء الفلسفة والإنسانية معًا. الدور بعمقه وتحدياته، كان تقليديًا للرجال، لكنها، في شجاعة نادرة، شأنها شأن الممثلة القديرة الراحلة ثريا جبران في مسرحية “بوغابة” “السيد بونتيلا وتابعه ماتي” لبريشت، قدمته بصوت امرأة، تتنقل بين باريس وأمستردام، حاملة أوجاع الصراعات الداخلية وأسئلة الهوية الكبرى. في هذا الأداء المونولوجي المكثف، تحولت صوفيا إلى كيان مسرحي خالص، يستحضر جوهر التراجيديا الإنسانية: ذلك الصراع الذي لا ينتهي بين السقوط والخلاص.
إنها ليست ممثلة فقط، بل رائدة تتطلع إلى إعادة صياغة قواعد اللعبة المسرحية بطريقتها.
وجهها المليء بالسلام والصرامة، يحمل تناقضات الإنسان، وكأنها آلهة تجسدت لتروي حكايات البشر.
وفي زخم السينما والتلفزيون المغربيين، حيث تتدافع الوجوه لتخلّد ملامحها عبر الشاشة، يظل وجه صوفيا هادي غائبًا، غيابًا يتجاوز العادي ليصبح سؤالًا مؤرقًا. كيف لوجه ملائكي، يتشح بحضور آسر، أن يبقى محرومًا من عيون العدسات؟ كيف يمكن للسينما المغربية، التي تكابد عطشا إلى وجوه ذات عمق وكثافة، أن تُحرم من ممثلة كهذه؟ وللتلفزيون الذي يبحث عن حضور استثنائي أن يُبعد صوتها ولغتها الجسدية؟
هذا الحرمان، كما يراه كثيرون، لم يكن اختيارًا بقدر ما كان قرارًا مكتوبًا بحبر تعنت نبيل لحلو، زوجها وشريكها المسرحي الأبدي. الذي احتكر وهجها، وحصر طاقتها داخل أسوار مسرحه، وكأنها قصيدة لا يحق لأحد أن يقرأها إلا في معبد كلماته.
كل دور، كل نص، كل مشهد لصوفيا، كان يجب أن يمر عبر بوابة لحلو. على مدار أكثر من أربعين عامًا، لم تكن صوفيا شريكة مسرح فحسب، بل كانت صورة مكملة لرؤية زوجها الفنية.
صوفيا هادي، في عزلتها الفنية هذه، أصبحت أشبه بجوهرة مكنونة، هي الوجه الذي يراه الجمهور رهينًا بخشبة المسرح، وكأنها آلهة لا تظهر إلا في معابد محددة، ممنوعة من الانخراط في العالم خارج تلك الحدود.
هل كانت صوفيا لتحتفظ بهذا البريق الأيقوني لو صارت نجمة للكاميرا؟ أم أن هذا الغياب هو ما يصون أسطورتها ويجعلها تمضي في أعين محبيها كحلم بعيد المنال؟