وجهة نظر

صرخة وراء الشاشات.. وتحولات تتحدى المألوف

“جيل Z”، الذي وُلِد وعينه تُطل على شاشات الهواتف والحواسيب ، يخرج الآن من قوقعة عوالمه الرقمية ليقتحم الشارع، بضجيج صامت أحياناً، وصراخ مدوّ في جوهره أحياناً أخرى، هي احتجاجات متواصلة تأبى أن تكون مجرد موجة عابرة (توندونس) ، بل هي مؤشر قوي على تحولات عميقة في آليات الفعل السياسي والاجتماعي، ولا يجوز لنا ونحن نرصد ما يقع، أن نمر مرور الكرام دون تحليل لوضعية التقدم والحلول الممكنة.

هذا الجيل لم يتبلور في كنف المرجعيات الأيديولوجية الكبرى، بل تشكل في فضاء الترند والهاشتاغ؛ فاحتجاجاتهم ليست وليدة برنامج سياسي تقليدي محبوك وممل، بل هي انفجار لـ مطلب وجداني مباشر، رفض للغلاء، نفور من الظلم، غضب من البطالة ، إنه الغضب الجماعي الذي يمنح التجربة العاطفية المشتركة في الشارع قيمة تفوق صياغة البيان السياسي المفصّل.

هذا الجيل الأكثر اتصالاً بالعالم والأكثر وعياً بـ الفوارق المجالية وحالات الظلم العالمية هو ذاته الذي يجد صعوبة في تأطير غضبه الذي يترجمه إلى موجة احتجاجية رقمية تتحوّل لـ مظاهرة لحظية، ويكون معيار النجاح فيها هو مدى الانتشار والتأثير الآنِي ، بطبيعة الحال هذا لا ينقص من شرعية مطالبه، بل يضعنا جميعا أمام تحدي تحويل الانفعال اللحظي إلى قوّة بناء مؤسسي.

ما نعيشه الآن هو خروج الجيل من حالة الكمون، وإدراكه الفعلي لقوّته كـ كتلة شبابية قادرة على إحياء الشارع حيث أثبتوا أنهم ليسوا مجرد كائنات مسمّرة أمام الألعاب الإلكترونية، بل طاقة فاعلة تُحرّكها قضايا الصحة والتعليم ومكافحة الفساد ، انهم بصدد اكتشاف ذواتهم السياسية.

هذه الاحتجاجات أفرزت نمطاً تنظيمياً جديداً، لا مركزياً يعتمد على المنصات الرقمية (كـ “ديسكورد” وغيرها) في التخطيط، والخرائط التفاعلية في تحديد مواقع الوقفات. هذه اللا مرجعية هي تقدم في حد ذاته، كونها تُصعّب على السلطة التعامل مع الاحتجاج من خلال رأس واحد يمكن التفاوض معه، لكنها في المقابل تُضعف من قدرة الحركة على الاستدامة.

تجاوز مربع الانفجار يتطلب عملا من جانبين حيث توجب على النخب السياسية والمدنية أن تتخلّى عن تبخيس هذه الاحتجاجات واعتبارها مجرد فورة شباب، بل عليها أن تقرأها كـ مؤشر حيوي على خلل عميق في سياساتهم العمومية التي لا تستجيب لحاجياتهم وضعف إشراكهم في مختلف مناحي الحياة العامة ، أستحضر هنا سنة 2012 عندما كنا نترافع من أجل تنزيل المجلس الاستشاري للشباب والعمل الجمعوي هذه المؤسسة الوحيدة التي تم إقبارها بعد 13 سنة دون مبرر معروف.

على مكونات المجتمع استيعاب الانفعال الجماعي في مسارات حكامة تشاركية حقيقية ليس من حلال الحوارات الشكلية بل إنشاء مجالس شبابية رقمية أومنصات حوار تفاعلية يتمتع فيها صوت هذا الجيل بوزن فعلي في صياغة السياسات العمومية، خاصة في قطاعات الصحة والتعليم في أفق بناء جسور بين الوجدان الرقمي و العقل السياسي، عبر مساعدة هذا الجيل في تحويل شعاراته الرمزية واللحظية إلى مطالب مُؤطرة و برامج إصلاح واقعية قابلة للتنفيذ والمتابعة.

من جهة أخرى أتمنى أن يدرك الجيل المحتج أن الـ ترند لا يصنع التغيير الجذري ، فالتأثير اللحظي لا يعوض القدرة على البناء المؤسسي ،عليهم منذ الآن البدء بالتفكير في محطة الانتخابات المقبلة لتكون فرصتهم للمشاركة المكثفة في الترشيح أو التصويت والمساهمة الحقيقية في إدارة الشأن العام (لديهم هذه الامكانية أكثر من 7 مليون شابة وشاب) ولأن قواعد الديموقراطية تمنح التدبير والتدبير لمن يحصد الأصوات، هي فرصتهم أيضا للقيام بحملات توعوية رقمية باستثمار مهاراتهم للمساهمة في تحسيس من يساهمون في إعادة النخب السياسية الفاشلة لدفة الحكم من خلال بيع الأصوات ، فرصتكم وفرصتنا لنحول هذا الغضب من “مجرد منفضة” يُلقى فيها الرماد، إلى منصة يُبنى عليها المستقبل.