وجهة نظر

في دينامية “حركة Z”.. تفكيك لابد منه

بصرف النظر عن توجيه السؤال نحو خلفيات هذه الحركة التي أضحت تعرف على الأقل إعلاميا ب ” حركة Z ” ، ومن دون التماهي مع فرضية المؤامرة التي ظلت ترافق بعض التأويلات المنحرفة في معرض مجابهة كل فعل إجتماعي يولد مغربيا من رحم المطالب الإجتماعية في معرض الترافع من أجل كرامة المغاربة ؛ مفروض عدم استسهال ما عبر عنه جيل الألفين من مطالب ذات عمق اجتماعي وذات صلة بالأسئلة المجتمعية الحارقة التي طالما تعبر عنها مناطق كثيرة من مغرب الهوامش ، خاصة ما يتعلق بالصحة والتعليم والشغل . ولأن إعلان تاريخ مسبق موعدا للخروج إلى الشارع العام لبناء تعبيرات تدين ما ٱلت إليه وضعية الحقوق الإقتصادية والإجتماعية ، مع الإلتزام بالموعد المحدد من لدن الجماهير في كثير من مدن المغرب الكبرى ؛ يفيد وجود وعي بنيوي مضمر خارج الضبط المؤسساتي الحزبي والجمعوي والنقابي ، فعل يراكم بهدوء ويسجل ضمنيا تقهقر منظومة الحقوق في كنف توجهات حكومية نيو-ليبرالية . لكل هذا أود أن أتفاعل بالتحليل التالي :

✓ ملاحظات على أساس رصد شكل ومضمون دينامية ” جيل Z ” بما هي فعل إجتماعي قائم :

* أولا : إن الدينامية مثار هذا الرصد جعلت من شوارع ومساحات المدن الكبرى فضاءات عمومية للإحتجاج ، على نقيض خجل أو غياب هذه الدينامية بالأرياف والقرى . وهذا معناه أننا أمام تشكل وعي حضري – مديني يتعقب مؤشرات التنمية البشرية في قطاعات حيوية في مقدمتها الصحة والتعليم ؛ وبالتالي يؤكد نضج وعي سياسي شبابي ، وفي الأن ذاته رفض كبير للإخراط في الأحزاب السياسية التي ترزح في نمطية متجاوزة لا تواكب تحولات المجتمع ولا تسمع لنبض الفئات الشابة . وهذا معناه أن الوعي السياسي يتشكل في الفضاءات العمومية الإفتراضية كبديل عن المؤسسات غير الديمقراطية ، وهو اعتراف ضمني بموت إكلينيكي للأحزاب السياسية العاجزة عن تجديد نفسها ومواكبة نفَس الحيوية المجتمعية .
* ثانيا : يلاحظ غلبة فئة الشباب من مواليد مع بعد الألفين ، وبمظاهر ( الزي والسحنة والأسلوب ) تفيد انتماء جزء منهم إلى الطبقة المتوسطة ، وليس إلى القاع الإجتماعي بدور الصفيح أو هوامش المدن حيث يقبغ الفقر والبؤس . وهذا مناط تحول نوعي تحتضنه المدينة التي بدأت تتشكل كفضاء عمومي شبابي تحت تأثير تحولات الهيكل الديموغرافي وارتفاع نسبي في معدل أمد الحياة بما يجعل الكهول والشيوخ على هامش الفعل الإجتماعي ، وبالمقابل يُفتح الباب أمام ميلاد ديناميات شبابية صاخبة تنتعش في إفلاس التنمية البشرية ولا تعير للمشهد الحزبي أي اهتمام بعلة عجز هذه المؤسسة عن تجديد نفسها وملاءمة انتظارات السوق الرمزية والمادية للمجتمع وخاصة للشباب .

* ثالثا : يلاحظ نجاح دينامية ” جيل Z “في استدماج النوع الإجتماعي عبر حضور وازن للمرأة /الفتاة في النزول إلى الشارع . وحضور المرأة يفيد نجاح الخطاب المؤطر للبروباغندا لصالح بناء دفوع موضوعية صلبها كشف تهاوي مؤشرات الحقوق الإقتصادية – الإجتماعية بمنأى عن التعاطي التقليدي مع حضور النوع الإجتماعي على أساس التبعية إلى فصائل إيديولوجية يسارية أو إسلامية . فهذه المرة يظهر أن حضور المرأة/الفتاة كان بمعزل عن الهواجس اليساروية الجامدة أو الدينية المحافظة .

* تظهر الدينامية الإجتماعية هذه المرة غير معتمدة على نقل خطابات معدة سلفا من خلال لافتات أو يافطات ، لذلك يظهر الفعل الإجتماعي بلا رايات أو أعلام وطنية أو لافتات عكس احتجاجات اليسار المحافظ والإسلاميبن التي تكون غالبا مثخنة بالرايات والصور والرموز . بالمقابل يسجل إنسجام عفوي بين الأصوات الشابة التي تصدح ضد فساد القطاعات الحيوية بعينها دون الذهاب بعيدا نحو قطاعات أخرى . بمعنى إننا أمام فعل إجتماعي جديد حصريا يركز على مطالب ذات صلة بانتظارات السواد الأعظم من الشعب وليس على مطالب فئوية كما كان مع احتجاجات نساء ورجال التعليم من أجل نسف ما سمي بالنظام الأساسي ، وكذا ليس كما يقع مع وقفات التضامن مع غزة حيت يظهر الخطاب محاصرا في أجندات مغلقة في صندوق التأويل الديني للظاهرة الإستعمارية وبتحالف مع النزعات اليساروية التي تبحث فقط عن إضعاف موقف الدولة وهو ما يشد عضد التحالف الهجين بين اليسار والإسلاميين رغم تناقض المرجعيات .

* أسجل ميلاد خطاب شبابي ” سياسي ” جديد مختلف عن خطابات الطبقة السياسية التقليدية التي توظف المؤشرات قصد النيل من الخصم السياسي وفق لعبة شد الحبل بين الخصوم الحزبيين دون القدرة على بناء قواعد مشروع مجتمعي واضح المعالم لصالح دمقرطة منظومة الحقوق وضمان سيولتها . فخطاب دينامية ” جيل Z ” عفوي – تلقائي ، بلا لغة خشب ، يصدح بوضوح ضد فشل السياسات العمومية في مجالات الصحة والتعليم والشغل ، دون الذهاب بشكل نمطي نحو تكرار سمفونية خطابات البروليتاريا الرثة كما تفعل فصائل اليسار القومي المتحالف مع القوى الدينية المحافظة لهدف واحد ووحيد هو تلطيخ شرف الدولة باتهامها ب « بيع » القضية الفلسطينية والسعي – في ذات السياق – إلى ترميم العجز عن إنتاج مشروع مجتمعي متكامل عبر استرداد الشرعية ببكرة غزة وفلسطين ؛ وهو ما يفسر التحالف بين النقيضين : اليسار المفروض أنه لائكي -ديموقراطي واليمين الديني المحافظ المفروض أنه يشتغل لصالح أسلمة الدولة من تحت . وعليه فخطاب ” جيل Z” جديد شكلا ومضمونا ، ينتقد الدولة – الحكومة ، ولا يسقط في إعادة إنتاج خطاب البروليتاريا الرثة الذي تتوافق عليه الحركات الراديكالية اليساروية والإسلاموية . وبالتالى يحتاج أن يكون مثارا لتأمل معرفي من داخل بيداغوجيا سوسيولوجيا التنظيمات والحركات الإحتجاجية مفعل إجتماعي قائم .

✓ استنتاجات في تعقب خطاب جيل Z :

في لحظات يجوز وصفها بالعصيبة تحت دواعي ما يتعرض له المغرب الرسمي من هجومات افتراضية ومن عدوان خارجي ممنهج يشكك في مؤسسات الدولة ، وأمام عجز الطبقة السياسية عن إنتاج قادة سياسيين قادرين على الوقوف في موقع ” البارشوك ” لصالح الدولة والوطن . ومع تنامي انحرافات كبرى باسم دعم الحداثة كتكتيك لفرملة طفر الحركات الراديكالية اليساروية والإسلاموية باحتكار شرعية السوق الخطابية ، كما يحصل مع صعود ” الفنان السلݣوط ” المدعوم من جهات رسمية إلى مختلف منصات المهرجانات ، بدأ الخطاب المعارض – اليساري المؤمن بالبروليتاريا الرثة والديني المحافظ التواق إلى عدالة أبي ذر الغفاري – يوجه قذائف الصعق للدولة تارة موظفا شرعية القضية الفلسطينية وتارة التماهي مع كل خطاب شعبوي يعارض الدولة في مضمار توسيع دائرة الصراع والرفض . ومع عجز الأحزاب السياسية عن تجديد نخبها وبناء خطابات جديدة تناسب زمن الألفية الثالثة ؛ بدأ المجتمع ، خاصة الشباب منه ، يبحث عن منافد بديلة للتعبير عن رفض ما حصل من ردة حقوقية في قطاعات حيوية يحتك معها المواطن يوميا . لكل هذا يمكن تصنيف حركة جيل Z ضمن فعل اجتماعي بديل يعتمد التواصل الإفتراضي فضاءً مناسبا لتأطير النزول إلى الفضاء العمومي المادي لخلق تعبيرات تدين تداعيات السياسات العمومية النيوليبرالية التي تطغى لدرجة يصعب التمييز فيها بين أدوار الفاعلين السياسيين وكوادر شركات خاصة حصل استقدامها للإستوزار في مضمار تبخيس ممنهج لرمزية السلطة التنفيذية وصورتها ، وكأن إدارة الشأن العام غنيمة وكأن الأحزاب السياسية مجرد إدارات بيروقراطية تبحث عن الحضور وليس خدمة الدولة والشعب . وعليه أعتبر ميلاد حركة هذا الجيل الجديد تجلّ لما يلي :

– إفلاس السياسات العمومية الحكومية التي تسوّق لمعاملات نيوليبرالية طاغية ضدا على حماية الطبقة الوسطى التي تعتبر صمام أمان و” بارشوك” يمنع الإحتكاك بين الدولة والمجتمع . وبالتالي أخذ الشباب زمام التعبير عن السخط حيال انجراف الحقوق الإقتصادية والإجتماعية نحو قاع الهدر المتكرر والمستمر

– عجز مؤسسات الوساطة في القيام بأدوارها ، وكذا مؤسسات الرقابة ؛ وهو ما يحفز على ميلاد ٱليات المراقبة الشعبية عبر خطابات في وسائل التواصل الإجتماعي مضمونها نمطي وهو ” فضح الفساد ” ، حتى إن مقارنة الخطابات النضالية في السوشل ميديا ما بين المغرب وغيره من بلدان إفريقيا والعالم العربي يجعله في المقدمة حتى إن لفظة الفساد أضحت مميعة بسبب المبالغة في استهلاكها في استعمالات شعبية ونخبوية في كنف عجز مؤسسات الرقابة عن اتخاذ المتعين لحماية الملك العام المالي بدل ترك كلمة فساد تصبح حصان طروادة في حرب الجميع ضد الجميع ضدا على صورة الدولة والمؤسسات .
– خطاب دينامية جيل Z يتجاوز النقابات التي تظل في حدود الدفاع على الحقوق الفئوية كشكل من أشكال الريع المشروع . فالنقابات أضحت مرتعا لبيروقراطية نقابية تحتكر كل هياكل النقابات وتفاوض غالبا بمنطق ” الشونطاج ” مع المسؤولين مركزيا وجهويا وإقليميا . لهذا تتواطؤ المركزيات النقابية مع مطالب نخبوية – خبزية عبر نقاباتها القطاعية من جهة ، وتفاوض لصالح مطالب تقنية خاوية من كل نبض سياسي مجتمعي ، حتى إن النقابي تهمه الترقية في الدرجة والرتبة ورفع الأجر أكثر مما يهمه فضح إفلاس برامج ومناهج التدريس وتحفيز الخوصصة في التربية والتعليم . ولا شك أن المركزيات النقابية هي التي يجب أن تحتج مؤسساتيا ضد ازدراء الحقوق الإقتصادية والإجتماعية ولصالح حماية الحقوق الدستورية بدل نهج سياسة الكرسي الفارغ والإستفادة من دعم الحكومة السخي . فكيف لا تولد خطابات بديلة ورؤساء المركزيات النقابية شيوخ متقاعدين على غرار شيوخ الأحزاب السياسية الذي كانوا على رأس أحزابهم قبل ميلاد جيل حركة Z لأكثر من عقدين .

– تحويل المجتمع المدني إلى مقاولات تبحث عن المنح هنا وهناك ، وجعله تابعا للأحزاب السياسية ولأعيان المدن والأرياف . علاوة على تفريخ « مجتمع مدني » يشتغل في المنتوجات المجالية ، وكذا استغلال المرأة والطفل في تحويل الفعل المدني إلى بهرجة وفلكلرة لصالح لعبة التصفيق والزغاريد ، كلها انزياحات تؤكد بلوغ لحظة اللامعنى . وغير بعيد نلمس عقد مؤتمرات حزبية على قاعدة الشيخ والمريد ، فتغيب الأطاريح السياسية والمرجعيات الإيديولوجية وتعدل القوانين الأساسية للأحزاب لصالح الزعيم ، ويحل محلها الولاء لهذا الزعيم بفضل جمعيات ووداديات وتعاونيات يحركها “السي الزعيم ” من بعيد لضمان التحكم في السوق البشرية باسم ممارسة السياسة التي ليست غير التموقع في خرائط الربح والمصلحة . وعليه فشل المجتمع المدني وتميعت أدواره ولم يتشكل بعد كسلطة قائمة للممانعة ومقاومة الإنحرافات الكبرى .

– انقشاع كذبة المنظمات الحزبية الشبابية بحيث أبانت حركة “جيل Z ” عن غياب ما يسمى بالشبيبات الحزبية بدليل عجز هذه المنظمات الشبابية عن تأطير الشباب ، وبالتالي يصبح الشارع فضاء عموميا كفيلا بالتعبير عن حرف Z الذي يصنف في الأبجدية اللاثينية كأخر حرف ، وكأن الحركة تريد أن تقول ” زيد على الله ” ما دامت كل مؤسسات الدولة والمجتمع عاجزة عن التفكير فينا نحن هذا الجيل الذي تعب من إفلاس التأطير التقليدي – السياسي والنقابي والجمعوي – عن ملامسة نبض الشباب وهوسهم بحياة رفاه مناسبة .

أخلص إلى أن تردي وضعية الإعلام العمومي ، وانحصار دور النقابات في تبني ملفات قطاعية محصورة في مطالب فئوية خبزية ، وإفلاس السياسة بسبب عجز الأحزاب عن الإمتثال للتمرين الديموقراطي بتجديد النخب والسماح بالتداول على الأمانات العامة ، وتحويل المجتمع المدني إلى أداة لممارسة الترف على أساس البهرجة والفلكلرة . كلها تمظهرات أزمة مؤسسات التنشئة الإجتماعية والسياسية ، وبالتالي وجد الشباب نفسه أمام إلحاحية البحث عن منافد لإماطة اللثام عن هشاشة السياسات العمومية والتعبير عن ارتفاع منسوب الوعي السياسي لدى هذه الفئة التي ينظر إليها غالبا نظرات ازدراء . وعليه فنحن أمام محاولات إبراز الذات الشبابية والدفاع عن مصالحها بسبب إخفاق مؤسسات الشيوخ والكهول عن فرز خطابات صادقة مناسبة لانتظارات المجتمع عامة والشباب منه خاصة.

* بقلم الناشط الحقوقي والباحث سعيد ألعنزي تاشفين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *