هناك ظواهر مثيرة تتكرر بشكل ممل تثير الغثيان، أساسها فصام سيكولوجي مرتبط بما ألفته النفوس من العوائد السيئة، والأعراف التاريخية المحبطة، واللتان تدمران قوام النفس الإنسانية، وأساسات القيم الواعية.. وتتجلى هذه الظواهر، في كيانات دمرها الجلاد البغيض، دمارا متعدد المستويات، وبدل أن تنطق باسم الضحايا، وتصون الذاكرة الجمعية للمحرومين، تتقمص لغة الجلاد، وتنطق بالنيابة عنه، تتيما وهياما وانشدادا بحباله وأوتاده!..
لكن هذا الفصام المرضي، لا يمارس بدون حقن ايديولوجية، أو ذرائع سياسية، فها نحن ندافع عن الاستبداد العربي الأعمي، ونحن ضحاياه منذ عقود، باسم الأدلوجة تارة، وباسم الممانعة تارة أخرى، وما يحير العقول، ويدمي القلوب، هو كيف يمكن أن نجمع بين الاستبداد والممانعة، وننظر للحرية والكرامة كأنهما مصانعة للأعداء والخصوم، أي جدل علمي يمكن أن يسوغ ذلك ويبرره؟!
الإختيار صعب، بين بندقية كانت تحترف المقاومة، وتصنع الحقائق على الأرض، وكانت هتافات التأييد تخرج سلسة، تداوي جراحات زمننا العربي الرديء، ثم ما لبثت أن اعتلاها الصدء، صدأ الطائفية، صدأ الضغينة، وصدأ الزعيم الملهم، فانحرفت عن بوصلتها، وتوحلت في برك القتل الحرام، الذي يستحل دم الشعوب، وتماهت هذه المرة، مع اسطوانة الاستكبار العالمي المشروخة في الدعوة ل”محاربة الإرهاب” فارتكبت من الجرائم ما لا تغسله كل أنهار العالم.. وبين حراك شعبي واسع بدأ مدنيا، بأهازيج شعبية احتفالية، يرسم في الساحات والميادين لوحات فنية، تختلط فيها كل ألوان قوس قزح، الأضواء والأعلام واللافتات والموسيقى والايقاعات، وتتشابك فيها الأيادي، وتتوحد الأبجدية، وتتعانق الحركات، كأنها فوق خشبة مسرح احتفالي، لكنه تعرض للذبح من الوريد إلى الوريد، وتآمرت عليه كل الدنيا، فاختلطت الأوراق، وتلك عادة سيئة تثقن المخابرات الإقليمية والدولية صناعتها، فدخل من النافذة الارهاب الداعشي والتدخل الأجني.. فتاه الاختيار، واحتار الناس، فتفرقوا شذر مذر!.. فسقط من عربة الحراك الكثيرون، ممن لا نشك في رجاحة عقولهم، وسلامة قلوبهم، والتحقوا بمدمرة “الطاغوت العربي”، وكأنهم يودون أن يعودوا بنصف انتصار خوفا من العودة بهزيمة كاملة، لكن أي انتصار يرجى من حاكم عربي شعاره “أحكمكم وأركبكم وإلا أقتلكم”؟!!..
إن عقلية الضحايا هي مخترقة من الداخل، من جهازها المفاهيمي والمعرفي، فهناك طبقات فكرية مترسبة تحتاج إلى نقد ونقد النقد، في أفق الوصول إلى قطيعة معرفية، بحاجة إلى فلسفة الفصل والوصل، فصل الواقع المعاش عنا لتمكيننا من نقده جذريا، وبدون عواطف جياشة، أو هيام أعمى، لا يجعلك ترى إلا بعين واحدة، ثم بعد النقد والتفكيك وإعادة البناء تأتي عملية الوصل، التي تجعل الواقع واقعنا الذي يحمل همومنا وقضايانا، ويتحرك في اتجاه أفق الحرية والكرامة.
إن مكر التاريخ، جعل الفقه القديم يؤجل “فكرة العدل”، لكي يغتالها فيما بعد، في إطار مساومة تاريخية ملتبسة، لصالح “فكرة الوحدة”، ومعلوم إن قوام “فكرة العدل” هو الحرية والكرامة، في حين أن قوام “فكرة الوحدة” هو الشوكة والغلبة، مما أفقر منظومتنا الفقهية، وجعل نطاق اختيارها لا يبرح عتبة السيء والأسوأ، فلم يعد متاحا لنا الترجيح بين الحسن والأحسن، بل حشرنا في هذا الجحر الضيق!..
ونفس هذا الجحر الضيق، يريد أن يحشرنا فيه، مرة أخرى أنصار الممانعة، الذين يعانون من ضعف الوعي التاريخي، لنلذغ مرات ومرات، فبعد إفشال حراك الربيع العربي، لأن التراكم الثوري لم يبلغ مداه، ولا زال في موجاته الأولى، هرول الكثيرون من معسكر الثورة، إلى قلعة المقاومة المنهارة، المقاومة المرتبطة بشكل مرضي بالشرعية الطائفية، والشرعية الكريزمية، وهما شرعيتان قديمتان، لم تعد تجديان فتيلا، ولا تصمدان أمام الشرعية الديمقراطية والمؤسساتية، وعار علينا أن نظل أوفياء لهذه العقلية التراثية، نحمل أوزارها، ونعيد ترسيخ مقولاتها المتداعية.
إن فلسطين قلعة المقاومة، لا تحيى إلا في ظل منظومة ديمقراطية تعاقدية وحقوقية، تعيد صياغة العقل العربي المعطوب، ليعيد بناء أبجديات المقاومة، بشكل سليم، تحرر الأوطان، وتعيد الحقوق المغتصبة، ولا تهتف باسم القائد الملهم، أو الفرقة الناجية، أو الطائفة المنصورة، لأن الخروج من نفق الاحتلال، لا ينبغي أن يدخلنا لبيت طاعة القائد أو الحزب أو الطائفة.
لذلك فمن حق الشعوب أن تثور وتثور ضد الجلادين، وليس من حق أحد أن يوقف ثورتها باسم الممانعة، إلا أن الثورة ينبغي أن تحمي صفوفها كذلك من الدخلاء، ثوار الربع ساعة الأخيرة، وأصحاب الأجندات الملوثة، ولن يعدموا من أي ثورة في العالم، فساعة التحولات الكبرى في التاريخ، تشهد ارتفاع سعار المؤامرات الكبرى الدموية والمحبطة، ولا ينبغي مهما كانت الأمور العودة إلى مربع الاستبداد البغيض، بل ينبغي ممارسة النقد والنقد الذاتي لحماية الثورة من أعداءها.
لذلك نقول لمن يصطفون اليوم مع الاستبداد البغيض، باسم المقاومة، وقد كانوا بصفوفنا في الحراك العشريني، لقد أخطأتم الطريق، لما تحولتم إلى شبيحة تدافعون على من يرتكبون المجازر الجماعية في حق شعوبهم، ونقول لمن يريد أن يحول الحراك الثوري، إلى إرهاب داعشي عنيف، أو إلى يبيع القضية، لأعداء أمتنا، ويجيرها لصالح التدخلات الأجنبية، لقد خسأت مخططاتكم.
الحراك الثوري بدأ ليستمر، وقوام استمراره في جولات وموجات، تتم بتعلم فن النظال المشترك، وفن العيش المشترك، وإرادة أن لا تسوية مع الاستبداد، وأن لا تسوية مع الاحتلال والإرهاب..
فأفق الحراك فسيح، فلا تضيقوا واسعا.
ـــــــــــــ
الجديدة في 02/12/2015