وجهة نظر

الغوغاء تنقلب على مدرسة القانون وقانون المدرسة

يعتبر قطاع التربية و التعليم واحد من القطاعات التي لم تنتهي النقاشات بشأنه ولم تحسم، تعددت الخطط والإستراتيجيات، واختلفت النتائج والنتيجة التي تكررت ولربما يتفق عليها الجميع ضرورة التوصل لتعاقد شامل بخصوص هذا القطاع السيادي والهام.

يمكن اعتبار القانون الإطار رقم 51.17 المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، فاكهة هذا النقاش وما سبقه، و هو بمثابة ميثاق وتعاقد استراتيجي لكل ما يهم التربية والتكوين والتعليم والمرجع الأساس والفيصل في كل الاشكالات التي قد تعترض أي عملية تربوية تعليمية.

فكيف يمكننا تدبير الأمور الخلافية و التجاذبات الايديولوجية في المدرسة ؟ وما قول القانون الاطار كتعاقد استراتيجي في هذا الشأن ؟

ينص القانون الاطار رقم 51.17 المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي في ديباجته على مجموعة من الرافعات، يعتبرها أساسية لتحقيق تكافئ الفرص من أجل تحقيق الاهداف المتوخاة، ومن بين هذه الرافعات، ”اعتماد نظام بيداغوجي يطور الحس النقدي وينمي الانفتاح والابتكار، و يربي على المواطنة و القيم الكونية ”، في الحقيقة هذه العبارة تستحق الوقوف عندها بشكل دقيق ، و خصوصا عند عبارة القيم الكونية و الحس النقدي ، فالكوني يدل على كل مشتركٌ إنساني، وهو مطلب إنساني وفلسفي معا، ويحيل هذا المفهوم على مجموع المبادئ والقيم الكونية كحقوق الإنسان، والعدالة والحرية وغيرها، ولذلك يعد الكوني هو الفضاء أو أفق مشترك يحمل خصائص وصفات مشتركة توحد كافة البشر رغم اختلاف وتنوع خصوصياتهم ، بمعنى اخر تواجد هذه العبارة ضمن القانون الاطار تعني أن المدرسة من مسؤوليتها تكوين تلميذ لا يختلف في هذه الجوانب عن كل تلميذ في العالم ، إلا في الأمور المرتبطة بالهوية الوطنية، التي يجب أن تتلاءم و عبارة اخرى يتضمنها القانون الاطار أيضا هي ” الانفتاح ”، هنا تحديدا يمكن القول أنه تم الحسم في أي تأويل تقليداني لما ينص عليه القانون الاطار بخصوص القيم الوطنية و الدينية ، ما يزيد من الوضوح في القانون الاطار بهذا الشأن ،هو المادة الثانية التي تحدد المقصود بالمفاهيم ، حيث عرفت السلوك المدني ، هذه العبارة الواردة في الميثاق أكثر من مرة ، كما يلي ”السلوك المدني: التشبث بالثوابت الدستورية للبلاد، في احترام تام لرموزها وقيمها الحضارية المنفتحة، والتمسك بالهوية بشتى روافدها، والاعتزاز بالانتماء للأمة، وإدراك الواجبات والحقوق، والتحلي بفضيلة الاجتهاد المثمر وروح المبادرة، والوعي بالالتزامات الوطنية، وبالمسؤوليات تجاه الذات والأسرة والمجتمع، والتشبع بقيم التسامح والتضامن والتعايش”.

و هو ما ذهبت في اتجاهه المادة الرابعة كذلك، التي تعتبر من الركائز الاساسية لتحقيق الاهداف المرسومة ” التشبث بالهوية الوطنية الموحدة المتعددة المكونات، والمبنية على تعزيز الانتماء إلى الأمة، وعلى قيم الانفتاح والاعتدال والتسامح والحوار والتفاهم المتبادل بين الثقافات والحضارات الإنسانية؛ ” ،و هنا يجب أن نتوقف قليلا عند معاني الكثير من العبارات ، الهوية الوطنية المتعددة الهويات تضم المكون العبري مثلا ، هذا المكون الذي يصعب أن تجد اليوم بالمدرسة ،من يحمل اتجاهه نظرة تسامحية ، باستثناء تلك المغلفة بالتبرير الديني نفسه، أما عن عبارة ” قيم الانفتاح و الاعتدال و التسامح ” تعني عمليا تقبل وجود ديانات اخرى حتى داخل الفضاء المدرسي مثلا ، و الحضارات الانسانية تضم عديد العرقيات والديانات، ويفترض في المتعلم أن لا يتقبلها فقط بل ينفتح عليها.

أنا هنا لست بصدد تقديم قراءة في القانون الاطار ، لكن أعتقد أن لهذا القانون سياق سياسي و دولي جاء فيه ، ظرف عرفت فيه بلادنا مواجهة للإرهاب و التطرف بأشكال مختلفة ، و تنصيص قانون الاطار على هذه المرتكزات يعد عمل هام في التصدي للإرهاب و التطرف تربويا ،و من مصدر تكوين الانسان اي المدرسة ، و لا يجب أن يبقى هذا الأمر حبيس القانون ، بل يجب تفعيله عبر كل الوسائل في الحياة المدرسية ، و اعتباره ملزما لكل المتعلمات و المتعلمين ، و ذلك لن يتم طبعا عبر مواد دراسية كالرياضيات و الفيزياء رغم أهميتهما في تقوية المنطق العلمي و هو أمر هام طبعا ، لكن هناك مواد محددة تقع على حدود الحرب التربوية على الارهاب ، الحديث عن مواد الفلسفة و التاريخ و الجغرافيا ،و مواد التفتح أي التربية التشكيلية و الموسيقى و المسرح ، وعبر الانشطة المدرسية الموازية.

السؤال ما هي الضمانات الواقعية لتفعيل هذا الورش في ظل مجتمع بعقليات تخشى الانفتاح و كل أجوبتها تستند للفقيه بالمعنى العامي للكلمة ؟ كيف نحمي الأستاذ الواقف على خط التماس من غوغاء المجتمع ؟ كيف يمكن لصاحب مؤسسة تعليمية خاصة مثلا الحفاظ على الارباح الاستثمارية و هي حق مشروع دون المساس بهذه المرتكزات الجوهرية في التربية و التعليم ؟ كيف يمكن أن يفرمل جاهل يعتقد أن بتأدية الواجب الشهري يحق له الاعتراض على حصص الموسيقى أو عدم إحضار ابنه لحصة المسرح ؟ و في أحيانا اخرى الحضور لتقديم اعتراض ضد أستاذ مادة الفلسفة ، هل القانون الاطار يتوقف على موافقة أولياء الأمور لتفعيله أم قانون دولة ملزم لمؤسساتها ؟ كيف يمكن أن يفهم هؤلاء أنهم يدفعون ثمن الخدمة لا شكلها القانوني ، فتأدية فاتورة الطبيب لا تسمح لنا بأن نكتب وصفة الدواء لأنفسنا , كيف سنحقق الاهداف المتوخاة بقانون موقوف التنفيذ و عليه شرط واقف ؟ شرط ملائمة القيم المدرسية لجهل العامة وتخلفها.

عندما تتدخل الدولة بسلطتها عبر أجهزتها لحماية الأمن العام و الاستقرار …. لا يفسح مجال لاي كان أن يقف في وجهها ، ما دامت هي التعبير الاسمى عن المصلحة العام و الساهر على سلامة المواطنين ، لكن وفقا للقانون ، كذلك المدرسة هي التعبير الاسمى عن القيم التي نريدها للأجيال القادمة ، و لها كامل الصلاحية ، و لا يحق لاي كان الوقوف في وجهها ، و هي تسهر على تعليم أبناءنا و السهر على توازنهم الفكري والثقافي…. وفقا للقانون و التعاقد المدرسي، وحتى أبعد عن نفسي تهمة ما ، و في نفسي أعتقدها من الايمان بالنسبية في الرأي والفكر ، أقول قولي هذا و ألحقه بعبارة دارجة أصبحت تغيب عن مثقفينا و عوامنا، ” و الله أعلم ”.

*باحث مهتم بشؤون التربية و التعليم