على حافة الجرح: حكاية القطاع الصحي الذي يلفظه الجيل الجديد

عقب الاحتجاجات الاجتماعية التي شهدتها منطقة الريف المغربي سنة 2017، والتي دامت حوالي سبعة أشهر؛ خرج على إثرها الناس للشوارع يطالبون بإصلاح النظام الصحي، والرقي بالمستوى التعليمي والكرامة الاجتماعية بمختلف مدن شمال المغرب، وظلّت صدى تلك اللحظة عالقة في الذاكرة بما درجت عليه الكتابات تسميته “حراك الريف”؛ فكانت الأصوات تصرخ وتطالب بتحسين هذه الأوضاع، وما إن سكنت الجموع وتراكمت على المنطقة وهدة الانكسار، ودخلت القضية في لجاج كلامي أفرغت القضية من جوهرها بتأويلات واتهامات بينية، حرّفت المسار الذي انطلقت منه أول مرة، وقدّمت للناس مغالطات منطقية زرعت الشكّ على حساب وعي القضية وفهم الأهداف الذي انطلقت منه، وهنا انطلق ضمير الكثير الذين انساقوا وراء هذه الجراح التي انطلقت تباعا بعد مرور ثمانية سنوات عجاف، ليعود الجرح ويُفتح من جديد، ولكن هذه المرة بصوت آخر مع جيلٌ جديد!
حياة جديدة كريمة بعنوان z
جيل وُلد من رحم الأزمات نفسها؛ فقرّر أن يرفع صوته ليس باسم الريف فقط، ولكن باسم وجع الوطن بأكمله، جيل أطلق عليه “جيل Z” لانتمائه لفئة عمرية لها خصائص معرفية وسلوكية لم تعهدها الأجيال السابقة، انطلق هذا الجيل وأطلق صرخته العالية، فسمعها القاصي والداني، معبرا عن آلامه جراء ما يتعرض له في المستشفيات، وعن تعبه المضني مع البطالة، وعيشه وسط الفقر المدقع، والتهميش المركب، والسكن غير اللائق.
انحصرت مطالبه في إصلاح القطاع الصحي كشرطٍ يليق بالحياة الكريمة لإنسان هذا القرن، لحد الآن قد تبدو الصورة واضحة شباب خرج من أجل إصلاح القطاع الصحي، ونتيجة لذلك عملت الحكومة على اتخاذ جملة من الإجراءات المتمثلة في قرارات إدارية سريعة، واستقالات لمسؤولين كبار، وهنا حُقّ لنا التساؤل، هل المشكل يكمن حقا فيما قامت به الوزارة الوصية تجاه المستشفيات من خلال جولات لمحاولات ترميم ما فسد منها، أم أن الأزمة أعمق من ذلك بكثير !؟
قلب الإصلاح
لا شك أن من طبيعة الإنسان الذي تعتريه الأمراض الالتجاء مباشرة إلى المستشفيات قصد إيجاد العلاج فيها، لكن الذي يحبسه دون أن ينال هذا الحق الطبيعي في المغرب هو الخيوط التي نُسجت حوله؛ فحين ينهار المستشفى فهو لا ينهار بسبب سقفه المتشقّق أو قلة أطبائه فقط، بل لأن شبكة علاقات المؤسسات القائمة قد اهترأت؛ بدءا من الإدارة الترابية، أو في المنظومة التربوية في قطاع التعليم، أو في الاقتصاد، وهو الذي يؤول بالإنسان إلى ثقافة سائلة للتطبيع مع الواقع الذي يصبح الفساد جزءا أصيلا من بنيته.
إن تغيير الوزير أو إقالة مسؤول في هذه الحالة يشبه تبديل السائق بمحرّك بنيته معطوبة، وهو ما يسمى في العلوم الإدارية بإصلاح القمة دون القاعدة، وهو أكثر الأخطاء شيوعا في الدول النامية أو المتخلفة التي تخلط بين الإدارة كصورة تجسدها البنيات التحديثية والإدارة كمنهج عملي فعال؛ ذلك أن الوزارة هنا تمثل الرأس، لكن الجسد يمكن اعتباره تلك الوحدات الصحية والمراكز الجهوية والممرضين الذين يعملون بأدوات قديمة، وبأنظمة حاسوبية لم تعد تراعي التحولات والتطورات الحديثة.
وبالتالي فإن إصلاح قطاع الصحة لا يتم بقرارات فوقية، وإنما يتم بخلق نظام ذكاء مؤسساتي منهجي يربط بين البيانات والقرارات؛ لأن الطبيب في مستشفى الحسيمة مثلا المفروض عليه أن يرى على شاشة حاسوبه التاريخ العلاجي لمريض في نفس اللحظة بباقي مناطق البلد بأكادير أو مراكش.
من هنا تبدأ الحكاية والمفارقة القياسية ورحلة ذهاب وإياب إلى الجحيم؛ حيث يلتقي المواطن المغربي بأسباب مرضه قبل أن يدخل إلى المستشفى عبر منظومة أخرى تُهيئ له المرض: ماء ملوث، هواء محمّل بالعوادم، غذاء بلا رقابة، ومدينة لا مكان فيها للمشي والرياضة؛ فعِلم الأوبئة الآن يؤكد أن 60٪ من أسباب المرض ليست طبية بل بيئية وسلوكية، فكيف إذن يمكن إصلاح المستشفى دون أن إصلاح المدينة الحاضنة لها، والتي تنجب المرض كل يوم؟ ألا يعدّ هذا التساؤل بديهيا ومنطقيا!
إذن المنظومة الصحية تحتاج إلى ما يسميه علماء الإدارة الصحية بثقافة الأمان والمسؤولية؛ حيث يدرك كل فرد، من عامل النظافة إلى الطبيب الجرّاح، أنه حلقة في سلسلة دقيقة، وأن الخطأ ليس عيبا بل فرصة للإنقاذ والتصحيح والتقويم؛ فمن دون هذه الثقافة، تظل القوانين حبرا على ورق، لتبقى الوزارات مجرد واجهات بلا روح.
تجارب رائدة
فالمنظومة الصحية لم تعد طبًّا فقط، بل أخلاق تتنفس في كل زاوية من المستشفى، وأخلاقيات المهنة تُمارس قبل أن تُدرَّس؛ لأن احترام المريض يظهر في نظرة الطبيب أثناء صوته حين يُشرّح التشخيص، أو في صمت الممر الطويل، أو في كرسي نظيف وسرير خال من الصدأ؛ فالصحّة الحقيقية لا تقاس بالأجهزة، وإنما بالكرامة التي يشعر بها كل من يمرّ بهذه الجدران؛ وهنا نأتي إلى التكنولوجيا الطبية لإدراك أنها ليست حلا سحريا بمفردها؛ فيمكن اقتناء أجهزة زرع قلب متطورة لكنها تبقى غير فعّالة إذا لم يرافقها نظام بيانات دقيق وفريق عمل متكامل ومتجانس؛ فعالم التقنيات بنفسه يتطلب قيادة إدارية واضحة، وتنظيما دقيقا للعمليات، وتنسيقا بين جميع مستويات المستشفى، وليست مجرد إعلان وزير في مؤتمر صحفي دون متابعة حقيقية، في مقابل ذلك نجد أن جملة من التجارب أثبتت أن الإرادة السياسية حين تقترن بالإدارة العلمية، تحدث المعجزة؛ فتركيا على سبيل المثال كانت قبل عقدين تعاني من نظام صحي متفكك شبيها بما يعيشه المغرب اليوم من اكتظاظ، وضعف في البنية، ونقص في الأطر الطبية، لكن مع إطلاق التحول الصحي عام 2003، تم توحيد الصناديق الصحية في نظام تأمين واحد، وتعميم الرعاية الأولية بموجبه، مع ربط المستشفيات بنظام معلومات رقمي موحد، والنتيجة كانت أن معدل رضا المواطنين ارتفع من 39٪ إلى أكثر من 75٪ في أقل من عشر سنوات، فهنا يتضح لنا أن الإصلاح لم يبدأ باقتناء الأجهزة ولكن بمد جسور الثقة وإصلاح الإدارة، وعلى نفس المنوال درجت بريطانيا عندما واجهت هيئة الصحة الوطنية أزمة تمويل ونقص كفاءات، ولم تلجأ حينها إلى تغيير الوزراء، وإنما ركّزت على إعادة تعريف العلاقة بين المواطن والمرفق الصحي؛ حيث تم جعل الوقاية أولوية، والاستثمار في التوعية والتغذية والنشاط البدني، مما أدى إلى تحقيق وفورات مالية ضخمة، أما في فنلندا، فقد أضحى نظام الصحة مشروعًا مجتمعيا وثقافيًا متكاملاً وليس حكوميًا فقط.
ومنه يتضح أن المسألة الصحية ليست مسؤولية وزارة واحدة، ولا قرارا إداريا يكفي لحل المشاكل، فهي عقد اجتماعي يربط الإنسان ببيئته ومجتمعه، ويعتمد على تكامل الأدوار بين المسؤولين والوزارات وكافة الأطر العاملة؛ وحين تصبح ثقافة الوقاية ثقافة يومية ويشارك المواطن بوعي في تحسين الصحة العامة؛ من خلال الحملات التحسيسية بمركزية النظافة، والتغذية السليمة، والنشاط البدني، والنوم الكافي، ومبادئ الوقاية الأساسية، وحينئذ يقل الضغط عن المستشفيات بشكل ملموس؛ مما يعزز الكفاءة التشغيلية ويحسن جودة الرعاية الصحية.
على سبيل الختم
يتضح مما سبق من العوامل والخيوط المتشابكة في النظام الصحي والتي تتركز في الإدارة، والتكنولوجيا، وسلوك المواطنين، والثقافة، والتوعية، والبيئة، أن النهضة الصحية لا تبدأ بمرسوم أو قرار إداري، وإنما هي عملية بناء مستدامة ومتعددة المستويات تبدأ من البيت، والمدرسة، والشارع، وحينئذ يتحول نظام الوقاية إلى ثقافة سائدة تسري في في المجتمع، وعندها فقط تستطيع المستشفيات العمل بفعالية، وتصبح القرارات الإدارية والتقنيات الطبية أدوات فعالة تدعم هذا البناء وليس مجرد واجهات بلا تأثير، وتعمل المنظومة تلقائيا، وتنتج القادة والأطر المؤهلة كما ينتج الجسد خلاياه السليمة لتعمل بشكل سلس.
ريهام أزضوض
خريجة جامعة أسكودار كلية الإعلام الجديد والاتصال اسطنبول تركيا
اترك تعليقاً